للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح حديث عمران بن حصين: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته)

قال: [حدثنا علي بن حجر السعدي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالوا: حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن أبي قلابة - وهو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته -أي: أن رجلاً حراً كان عنده ستة من العبيد اعتقهم جميعاً عند موته- لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً) يعني: قسمهم: اثنين، اثنين، اثنين؛ لأن هذا الحر ليس حراً في إعتاق الستة؛ لأن هذا قائم مقام الوصية، والعبد ليس له أن يوصي من ماله إلا بمقدار الثلث، وهذا الثلث ينفذ حتى لو لم يرض الورثة، ولا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الورثة، وهذا الحر لم يكن له إلا ستة مملوكين فأعتقهم جميعاً، فرد النبي عليه الصلاة والسلام هذا التصرف باستدعاء جميع المملوكين، وجزأهم ثلاثة أثلاث، اثنين، اثنين، اثنين، وأقرع بينهم، أي: ليخرج من يعتق، واللذان وقعت عليهما القرعة أعتقهما، وأما الباقون فهم مال انتقل بالميراث إلى أولاد المعتق؛ لأن العبد مال يورث.

وهذه الصورة ظاهرة من فعله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على مشروعية بل وجوب العمل على نحو ما عمل النبي عليه الصلاة والسلام.

وبعض العلماء نازع في هذه الصورة، وقال: القرعة ليست جائزة، والحديث يرد عليهم، وكلامهم خطأ، وقالوا: إنما يعتق من كل عبد ثلثه؛ لأن العبيد الستة لو أعتقنا ثلث كل واحد لتم لنا في نهاية الأمر عتق الثلث، ولا نعتق اثنين ونجعل الأربعة عبيداً للورثة، وهذا سيدخلنا في دوامة أخرى، وهي إبطال تصرف صاحب المال الذي أوصى بعتق هؤلاء جميعاً، ولو كان ذلك صواباً لفعله النبي عليه الصلاة والسلام.

وأما كونه قد عدل عن هذه الصورة وأعتق ثلث المال المتمثل في اثنين دون الستة فهذا يدل على أهمية هذا التصرف واستحبابه.

قال عمران بن حصين: [إن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم -وهذا يدل على استحباب القرعة- فأعتق اثنين وأرق أربعة -أي: جعلهم رقيقاً- وقال له قولاً شديداً)]، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي أعتق الستة ومات قولاً شديداً، وهذا القول هو: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، يعني: لو أني علمت هذا قبل أن أصلي عليه صلاة الجنازة ما صليت عليه، وهذا يدل على الزجر الشديد جداً، وقوله: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، لا ينفي صلاة عامة الناس على أصحاب المعاصي وأصحاب الكبائر، وإنما يدل على أن الإمام له أن يتخلى عن الصلاة على أصحاب المعاصي والكبائر؛ زجراً لأمثالهم ألا يقعوا فيما وقعوا فيه.

والنبي عليه الصلاة والسلام شهد لـ ماعز الأسلمي بالجنة، ولكنه ما صلى عليه؛ زجراً لغيره أن يقترف ما اقترف ماعز رغم أنه تاب.

وصلى على الغامدية، رغم أنها أتت ما قد أتى ماعز، ولكن المقام استدعى الصلاة هنا، واستدعى ترك الصلاة هناك، وربما كان هناك في المصلين على ماعز من ينزجر بترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أمثال هؤلاء الذين وقعوا في كبائر الذنوب.

فللإمام أن يمتنع من الصلاة على أصحاب الكبائر زجراً لأمثالهم، ولكن لا يحل لمجموع من كلفوا بالصلاة على هذا الميت أن يمتنعوا جميعاً، وإلا أثموا جميعاً؛ لأن الصلاة على الميت حتى وإن كان صاحب ذنب وصاحب كبيرة فرض كفاية، إذا فعله البعض سقط عن الباقين، ويستحب للإمام ولا يجب عليه، وإن صلى على صاحب كبيرة فلا حرج عليه، حتى وإن مات وهو مصر عليها ولم يتب لا حرج على الإمام أن يصلي عليه، ولكن ترك الإمام للصلاة عليه لا شك أنه من باب السنة، ومن باب الزجر.

وفي رواية: [(أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين)].

يقول: (في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه، وأنه إذا أعتق عبيداً في مرض موته أو أوصى بعتقهم وكانوا أكثر من الثلث أقرع بينهم، فيعتق ثلثهم بالقرعة.

وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، والحديث يرد عليه).