للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر الإمام النووي لأقوال العلماء في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)]

قال النووي عليه رحمة الله عند هذا الحديث: (قال القاضي عياض: اختلف السلف في الأولى -أي: في الآية الأولى- هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة؟) (هل هي محكمة) بمعنى: أنها لا تحتمل إلا مذهباً واحداً، أو هي مخصوصة من عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥]، هذا كلام عام لكل الناس إلا المريض والعاجز، وبالتالي فتصير هذه الآية مخصوصة من عموم، أم أنها منسوخة؟ وإذا كانت منسوخة فهل كلها منسوخة أم بعضها منسوخ والبعض الآخر غير منسوخ؟ ونحن نعلم أن المحكم غير المتشابه وغير المخصوص وغير المنسوخ، فالمنسوخ هو حكم سبق في الإسلام عليه العمل، ثم أتى أمر آخر بعد ذلك وأبطل العمل بالدليل الأول، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور).

فتبين بهذا الحديث أن زيارة القبور إما محرمة أو مكروهة حسب النهي، هل هو للتحريم أو للكراهة؟ ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة) ناسخ لقوله: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور).

كان الحكم أولاً في زيارة القبور النهي المطلق للرجال والنساء على السواء، سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة، ثم رخص النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في زيارة القبور وبين العلة من ذلك، وأن الزيارة للقبور تذكر الزائر آخرته وتذكره ربه، فهنا الصيام كان أولاً اختيارياً، حتى نزل قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] فقوله ((فَلْيَصُمْهُ)) أمر مؤكد بالفاء واللام، يعني: لا خيار له.

لكن هذه الآية ألا يمكن أن تكون مخصوصة؟ كما هو معلوم أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع بين الدليلين والعمل بهما معاً، فهل أرد دليلاً بدليل، وأبطل عمل دليل بدليل آخر، أم أتأول للدليلين وأعمل بهما معاً؟ يقول العلماء: الإعمال خير من الإهمال، يعني: أن تعمل بالدليلين معاً خير من أن تعمل بواحد وترد الآخر.

إذاً: يمكن أن أقول: إن قول الله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:١٨٤] أي: يجدون مشقة في الصيام.

{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:١٨٤] غير منسوخ، أما قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] فأقول: هذا كلام عام، والآية الأولى مخصوصة من هذا العموم، يعني: كما تقول أنت لولدك: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه إلا جنيهاً واحداً، فلو أنك توقفت عند تحذيرك الأول قبل الاستثناء: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه لشمل الجنيه الواحد أيضاً من باب أولى، لكن قوله: (إلا جنيهاً) هذا استثناء من المائة، فمعنى ذلك: أنه يجوز لك أن تأخذ جنيهاً ولا يجوز لك أن تأخذ أكثر من ذلك، فهذا استثناء وخصوص من عموم النهي، فلك أن تقول في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] ليصم جميع من حضر رمضان، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون عليه إلا بمشقة وبذل الطاقة والجهد المضني فلهم أن يفطروا؛ لأن هذا الجهد المضني إما أن يكون عن عجز وشيخوخة وكبر سن ومرض وسفر، فكل هؤلاء رخص لهم الشارع بأدلة أخرى تخصهم بالفطر، وعليهم الفدية.

فالله عز وجل رخص لمن كان على سفر أن يفطر، ومن كان مريضاً، ومن كان عاجزاً عن الصيام لكبر سن، لشيخوخة، لمرض، لحمل، لرضاع، لولادة لغير ذلك من الأعذار المشروعة أن يفطر، وهذا هو قول عبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء قالوا: نحن نخالف سلمة بن الأكوع، وسلمة بن الأكوع رغم مكانته العظيمة جداً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه ليس في الفقه كـ عبد الله بن عباس وكـ عبد الله بن عمر فهما أفقه منه، وكذلك خالفه أبو هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة لم يسلم إلا قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بأربع سنوات فقط، أو ثلاث سنوات وسبعة أشهر، إلا أن أبا هريرة حصل له الحظ العظيم جداً من العلم والفقه، وشاع اسمه وانتشر علمه في الآفاق وفي الأقطار؛ لأن أبا هريرة مكث في المدينة حتى احتاج الناس إلى علمه، وتصدر بأمر الولاة والأمراء في دولة بني أمية للإفتاء والتدريس والتحديث وغير ذلك.

فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخالف سلمة بن الأكوع، وكذلك عبد الله بن عمر مع جلالته وإمامته يخالف سلمة بن الأكوع، وناهيك عن مخالفة ابن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والتأويل، قال: (