للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام في الناس بعلم وعدل وإنصاف]

القاعدة الثالثة هي: الكلام في أعراض الناس ينبغي أن يكون بعلم وعدل وإنصاف، والأصل في هذه القاعدة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:٨]، وقال الله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:٨٥] ونحو ذلك من الآيات.

الإمام ابن جرير الطبري عليه رحمة الله يقول في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد! ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حددت لكم من أحكام وحدود في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا فيه إلى حدي واعملوا فيه بأمري.

فكأن الله عز وجل يوجه المؤمنين إلى أن يقوموا بالعدل والإنصاف والحكمة سواء مع الكفار أو مع المسلمين، وأما قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨]، فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم عليهم وفي رأيكم فيهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم من العداوات، ولكن الزموا العدل والإنصاف.

وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، قوله: (بعلم) أي: بتثبت وروية وبيان قبل أن تنطلق الألسنة، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع.

ولذلك أهل البدع يقولون: إن أهل السنة والجماعة أرحم لنا من رحمة بعضنا البعض؛ لأن أهل البدع أهل ظلم وجور وطغيان وبغي، حتى على بعضهم البعض إذا انفردوا، وأما أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة فإنما بعثهم الله تعالى رحمة للخلق جميعاً، كما بعث الأنبياء رحمة للخلق جميعاً؛ لأن أهل السنة والجماعة إنما هم امتداد للدعوة وللرسالة التي أرسل الله بها الأنبياء والمرسلين من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.

قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الفضيل بن عياض: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه! فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً يتضح فيه منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله تعالى يغفر له خطأه.

فالذي يجتهد وينوي أن يصل إلى حقيقة الأمر، وإلى مرضاة الله عز وجل، ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخطئ الطريق ويصل إلى نتيجة غير مرضية عند الله عز وجل وعند رسوله، فلا شك أن هذا مجتهد مأجور إن كان من علماء الاجتهاد، فمثل هذا غداً يغفر الله له، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن تحرى الباطل فأصابه.

وهذا كلام ينبغي أن يُحفظ: (ليس من تحرى الحق فأخطأه كمن تحرى الباطل فأصابه) فإن الثاني من أهل البدع والأول من أهل الحق، وإن خالف الحق فيما اجتهد فيه.

ومن خلال النصوص السابقة نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره إن احتاج إلى ذلك من جهة الشرع إلا بعلم وعدل وإنصاف، فالله تعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦] ومن تكلم في غيره بظلم وزور فقد خالف قول الله عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨] والمقصود بالعدل في وصف الآخرين: هو العدل في ذكر المساوئ والمحاسن، فإذا ذكرت مساوئه فلا تنس محاسنه وفضائله والموازنة بينهما.

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فإن أخطأ المرء وتاب فلا تذكر له خطأه وتنسى توبته؛ لأن التوبة تجب ما كان قبلها، والإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجبُّ ما كان قبلها، والحج يجب ما كان قبله أليست كل هذه مكفّرات؟ فالتوبة مكفّرة، فلا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تُدفن محاسن المرء لخطئه، كما أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل خبثاً.

ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل عن المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل قد أدّبنا بأحسن أدب وأكمله؛ فقال سبحانه: {وَلا تَبْخَسُوا ال