للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب]

ومعنى كلمة (ركن): أي: أنه داخل في ماهية وأساس الشيء، بل لا يقوم هذا الشيء إلا به، بخلاف الشرط، فإنه خارج عن ماهية الشيء وليس داخلاً فيه.

فمثلاً: الوضوء شرط في صحة الصلاة، وهو غير داخل في ماهية الصلاة، فمن توضأ لا يلزمه لزوماً أكيداً أن يصلي، فيمكن أن يتوضأ المرء ولا يصلي، لكن لا يمكن أن يصلي إلا بوضوء، فالوضوء عبادة مستقلة، والصلاة عبادة أخرى، والله تعالى قد جعل الوضوء شرطاً في صحة الصلاة.

مثال آخر: الركوع، وهو داخل في ماهية وأساس الشيء، فهو ركن من أركان الصلاة، فلو كان المرء متوضئاً ودخل في الصلاة، ثم ترك ركناً متعمداً أو ناسياً، لزمه أن يجبر هذا الركن بالإتيان بركعة أخرى، ولا يجبر بالسجود للسهو، وكذلك إن ترك السجود.

وهذا هو الفرق بين الشرط والركن، فالركن داخل في ماهية الشيء، والشرط خارج عن ماهية الشيء، فإذا قلنا: إن من أركان التوبة: الإقلاع عن الذنب، فإن الذي يدعي أنه قد أقلع عن الذنب، لكن لا يزال مصراً وقائماً على نفس الذنب فإنه ليس بتائب توبة حقيقية، فربما يتوب بعض الوقت، لكنه يرجع إلى المعصية مرة أخرى؛ لأنه لم يتب توبة نصوحاً، والتوبة النصوح: هي التوبة الصادقة الخالصة التي انعقد قلب المرء على الانسلاخ من الذنب انسلاخاً يؤدي إلى قلب هذا الذنب حسنات عند الله عز وجل؛ لعزمه وصدقه الأكيد.

فلو أن رجلاً ابتلي بكبيرة السرقة، أو كبيرة الزنا، أو شرب الخمر، وهو يقول: يا رب! تبت إليك من هذا الذنب، لكن سرعان ما يعود إلى نفس الذنب مرة أخرى، فهذا إما أنه لم يكن صادقاً ومخلصاً في توبته، وإما أن شهوته غلبته فعاد إلى نفس الذنب.

ففي الحالة الأولى: أنه لم يكن صادقاً ولا مخلصاً، فلا يكون هذا العبد تائباً على الحقيقة، وفي الحالة الثانية: أنه بالفعل قد أقبل على ربه، وامتلأت أحشاؤه وصدره حباً لله ولكتابه ولسنة نبيه، فهو صادق وعازم على ألا يرجع إلى الذنب، لكن شهوته تغلبه فيقع في الذنب مرة أخرى، فهذه الحالة بلا شك أنها خير وأفضل بكثير جداً، بل لا مقارنة بينها وبين الحالة الأولى، فإن الله تعالى يتوب على هذا العبد، وإن عاد إلى الذنب ثم تاب، حتى لو تكرر ذلك منه مرات ومرات، وهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.

الإقلاع عن الذنب يستلزم استجماع الحواس، أي: أنه لا يجزئك أن تقول بلسانك دون تدبر ولا تفكر ولا تعقل ولا عقد القلب على الإقلاع عن الذنب: يا رب! تبت إليك، أو يا رب! أستغفرك وأتوب إليك، فإن هذا لا يخدم العبد، وإنما الذي يخدمه أن تجتمع حواسه على الإقلاع عن الذنب، ويعقد قلبه على ذلك.

والذنب إذا تكلمنا عنه فإنما نتكلم عن أنفسنا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل بني آدم خطاء - أي: مذنب- وخير الخطائين التوابون)، فالذنب لا بد من الوقوع فيه؛ لأن ما دون النبي عليه الصلاة والسلام غير معصوم من الوقوع في الكبائر، والصغائر من باب أولى.

وقد تضافرت وتظاهرت على ذلك الأحاديث المبينة بأن العباد لا بد أن يذنبوا، ولو لم يذنبوا لأخذهم الله واستبدلهم بغيرهم، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يذنبون فيتوبون)، فالله تعالى يحب التوبة والأوبة والرجوع والإنابة إليه، ولذلك الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم كانوا أكثر الناس استغفاراً وتوبة وإنابة وخضوعاً وذلاً، مع أنهم لم يأتوا من الأعمال ما يستوجب ذلك كله، لكنهم كانوا يعدون اللمم في حق أنفسهم أعظم من الكبائر، فكانوا يقدمون بين يدي دعائهم من التضرع والخشوع والذل ما لا يقدمه من هو دونهم في المنزلة والفضل -وإن ارتكب الكبائر- وهذا بلا شك من باب الاقتداء والأسوة بالأنبياء والمرسلين.