للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية العلم وسؤال العلم]

قال: [(فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على راهب)].

أي: دلوه على راهب، وشأن الراهب أنه يبقى في صومعته يعبد فيها ربه، فيصلي، ويصوم، ويتقلل من الطعام والشراب واللباس، وأما العلم فلا صلة له به، والأصل أن يدل على أعلم أهل الأرض، لكنهم تركوا ذلك وأخذوا كما يأخذ عامة الناس بظاهر الحال من الصلاح، والعبادة، والتقوى، وغير ذلك، فهذا الراهب إنما تنفعه رهبنته لوحده، وهذه الرهبنة لا تنفع بقية الأمة، فعبادته مقصورة عليه، فهو وحده ينتفع بها، وأما بقية أفراد الأمة فإنما ينتفعون بعلم العالم لا بعبادة الراهب، ولا بعبادة العابد، ولا بصلاحه.

والعابد أو الصالح، التقي، الراهب، قل أن يكون له علاقة أو صلة بالعلم، فكثير من الناس إما أن يكون قصاصاً، أو واعظاً، أو خطيباً، أو مصلحاً، أو غير ذلك من الأعمال الخيرية الشريفة التي يتقرب بها قائلها إلى الله عز وجل، لكن لا يصلح أن يتصدى لإفتاء الناس في أمور دينهم ودنياهم.

وعلى أية حال ليس هذا مطعناً فيمن تصدى لوعظ الناس، أو التأثير فيهم بالقصص والروايات والأخبار وغير ذلك، وربما لا يتأهل العالم للقيام بهذا الدور في الأمة؛ لأنه أتقن نمطاً معيناً من دين الله عز وجل، وهو طلب العلم بأدلته الشرعية، وإسقاط ذلك على واقع السائل، ثم الإفتاء بالحل أو الحرمة، وبالبطلان أو الصحة، أو غير ذلك، فهو يجيد هذا الفعل، وغيره لا يجيد إلا باب القصص والوعظ، والتأثير في الناس، والخطابة، وربما لا يجيدها العالم، فهذه أرزاق وقدرات وزعت على الخلق كل على حسب مراد الله عز وجل.

فليس مطعناً على العالم أنه غير قادر على الوعظ، وليس مطعناً على الواعظ أنه غير قادر على تعليم الناس؛ لأنه لا رصيد له بالعلم، وإنما رصيده حب القصص، والأخبار، والحكايات، والروايات التي يكون لها تأثير مباشر في قلوب المستمعين، وتحريك الوازع الديني في قلوبهم، وربطهم بالله عز وجل، ويا حبذا لو أن ذلك وفق معرفة الحلال والحرام، ومعرفة الأحكام والحدود وغير ذلك من مسائل العلم في دين الله عز وجل! ولذلك يغتر كثير من الناس فيسألون أي خطيب صعد المنبر، وهذا بلا شك فعل غير سديد، ومنهج غير موفق، وربما يحمل الحياء الشيخ ألا يعتذر عن كل سؤال وجه له، فيفتي الناس بالعاطفة لا بالعلم، وكذا يتوجه المستمعون إلى الواعظ، والقصاص، والإخباري وغير ذلك بأسئلة لو طرحت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، والذي يحمل الخطيب أن يتصدى للإفتاء هو مخافة السبة، أو التهمة، أو أن يقال: ليس عنده علم أو غير ذلك، وليس هذا بابه ولا مدخله، كما يحمل الناس العالم أو طالب العلم المتخصص أن يخطب فيهم وليس خطيباً، فإذا صعد المنبر نفر الناس من طريقته وأسلوبه؛ لأن طريقة العلم وطرح المسائل بأدلتها لا يقبلها إلا فئة قليلة من الناس؛ وهم طلاب العلم، فكون العالم أو المهتم بتدقيق وتحقيق المسائل العلمية يفعل ذلك على المنبر لا شك أن هذا فيه تنفير لعامة المستمعين، وإذا اتفقنا أن هذه قدرات؛ فينبغي أن نعرف إلى من نوجه سؤالنا.

ولذلك فإن الله تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩]، فالمسألة كلها متعلقة بالعالم.

هذا إذا أردت أن تتعلم دينك، وأما إذا أردت أن ترقق قلبك، وشعرت ببعض القسوة أو الغلظة أو البعد عن الله عز وجل؛ فهذا بلا شك عن طريق الواعظ، والقصاص، والمؤثر في قلوب الناس، فلا يبغي هذا على ذاك.

ولذلك انظر إلى الخطأ الذي نجم عن عدول الناس في دلالة هذا القاتل على العالم، فهو لما سألهم عن أعلم أهل الأرض دلوه على راهب.

قال: [(فأتاه القاتل فقال له: إنه قتل تسعاً وتسعين نفسا -أي: يتكلم عن نفسه بضمير الغائب- فهل له من توبة؟ فقال الراهب: لا توبة له، فقتله القاتل، فأتم به المائة)].

لأنه أغلق باب الأمل أمامه، وإذا كان الباب قد سد وأغلق وأوصد أمامه تماماً، ويستوي أن يقتل واحداً أو مائة؛ فما المانع أن يقتل من أيسه وقنطه من رحمة الله عز وجل.

قال: [(ثم سأل عن أعلم أهل الأرض)].

أي: أنه لم يقنط، فسأل للمرة الثانية عن أعلم أهل الأرض.

قال: [(فدل على رجل عالم)].

والتفريق بين العالم والراهب: أن الراهب هو الرجل الصالح ذو العبادة المستمرة، لكنه ليس عالماً، ولذلك جرّ على نفسه القتل بجهله، ولو قال: لا أعلم لنجا، لكنه تصدى لشيء بعاطفته، واستعظم ذلك، وأخذ الثقة من نفسه، فطرده من رحمة الله عز وجل بقوله، فلما قنط القاتل قتله، فأتم به المائة، بخلاف العالم.

قال: [(فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال العالم: نعم)].

أي: نعم له توبة وإن قتل الناس أجمعين.

قال: [(ومن يحول بينه وبين التوبة)].

يعني: من ذا الذي يحجب عنه باب قبو