للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوبة تجب ما قبلها]

قال: [(فانطلق الرجل حتى إذا نصف الطريق -يعني: انتصف به السير في وسط الطريق- أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب -ومعنى اختصمت: اختلفت- فملائكة الرحمة يقولون: أتانا تائباً، وملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، فقد قتل مائة نفس، فأمر الله عز وجل ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أن يحتكموا لأقرب قادم، فأنزل الله عز وجل ملكاً من السماء في صورة إنسان، فجعلوه بينهم حكماً، فقال هذا الملك: قيسوا ما بين الأرضين: الأرض التي خرج منها، والأرض التي هو ذاهب إليها، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي هو ذاهب إليها -أي: الأرض التي فيها قوم يعبدون الله عز وجل- فقبضته ملائكة الرحمة).

قال قتادة: فقال الحسن -وهو ابن أبي الحسن يسار البصري -: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره].

وهذه صيغة تمريض تشير إلى ضعف ذلك، كما أنه لم يذكر في الحديث النبوي.

ونأى بمعنى: نهض وتحرك، يعني: لما أتاه الموت تقلب مرة، فكانت هذه المرة بالقرب من الأرض التي هو قد أرادها.

وهذا الكلام الذي قاله الحسن (ذكر لنا) رواه مسلم مسنداً بسند صحيح في الإسناد الذي بعده مباشرة؛ حتى يبين لنا طريق قتادة عن الحسن وأن ذلك قد ثبت من طريق أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد في نفس الحديث.

قال مسلم: [حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن قتادة أنه سمع أبا الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً قتل تسعاًَ وتسعين نفساً، فجعل يسأل: هل له من توبة؟ فأتى راهباً فسأله، فقال: ليست لك توبة، فقتل الراهب، ثم سأل عالماً فقال له: نعم، ثم أمره أن يخرج من قريته إلى قرية فيها قوم صالحون، ولما كان في بعض الطريق أدركه الموت، فنأى بصدره ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان أقرب إلى أرض القوم الصالحين بشبر واحد، فأخذته ملائكة الرحمة).

وحدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا شعبة عن قتادة بهذا الإسناد نحو حديث معاذ بن معاذ، وزاد فيه: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي -أوحى: بمعنى أمر- وإلى هذه أن تقربي)].

أي: أن الله عز وجل أمر الأرض التي خرج منها أن تتباعد، وأمر الأرض التي هو ذاهب إليها أن تقترب، فكان ما بين بعد هذه واقتراب ذاك هو شبر، والأعمال بالخواتيم كما قال عليه الصلاة والسلام.

وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم قال: (لم يكن أحد قط أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا كان في حال كفره- فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيته وقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط النبي عليه الصلاة والسلام يده، فقبضت يدي -أي: لم يبايع- فقلت يا رسول الله: أشترط، فقال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي ما قد سبق).

أي: لأنه لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله، ولا أحد أكره إليه من النظر إلى وجه من رسول الله، ولا دين في الأرض أبغض إليه من دين رسول الله عليه الصلاة والسلام.

(قال: يا عمرو بن العاص أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الحج يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها) ومعنى (تهدم) أي: تحط وتغفر، والحج يهدم ما كان قبله إذا كان حجاً مبروراً لا إثم فيه، بحيث يرجع منه المرء كيوم ولدته أمه كما قال عليه الصلاة والسلام، وكذلك لو أحسن المرء في الإسلام فإنه يغفر له ما قد سبق، بل تقلب سيئاته حسنات، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:٣٨] أي: قل للذين كفروا إن يقبلوا على الله عز وجل، وينتهوا عن كفرهم؛ يغفر لهم ما قد سلف، أي: في حال كفرهم، وهذا دليل على أن الإسلام يهدم ويجب ويغفر ما كان قبله من معاص، وإذا كان الإسلام يغفر الكفر والشرك فكيف لا يغفر بقية الذنوب؟! والراجح أن الحج يغفر الكبائر والصغائر، وكذلك إذا تاب الإنسان من الكبيرة قبلت توبته من الكبائر مهما تعددت أو كثرت، والدليل على ذلك حديث قتل التسعة والتسعين.