للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مبحث في موت الفجأة]

أخرج الإمام البخاري حديث المرأة التي افتلتت نفسها في كتاب الجنائز الباب الثالث والتسعين، فقال: باب: موت الفجأة، يعني: البغتة.

ثم قال الحافظ: والفجاءة هي الهجوم على من لم يشعر به، واحد هجم عليك وفاجأك، وموت الفجأة وقوعه بغير سبب من مرض وغيره.

قال ابن رشيد: مقصود الإمام البخاري -والله أعلم- الإشارة إلى أنه ليس بمكروه -أي: أن موت الفجأة ليس بمكروه- وإن كان قد ورد في بعض الروايات ما يشعر بكراهة موت الفجأة، بل قد ورد في الروايات الصحيحة أن موت الفجأة من علامات الساعة وأشراطها.

قال: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر منه كراهيته لما أخبره سعد بن عبادة بذلك.

وعند أحمد: من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع، وقال: (أكره موت الفوات).

قال ابن بطال: وكان ذلك -والله أعلم- لما في موت الفجأة من خوف إهمال الوصية، يعني: أن الذي يموت فجأة يحرم أن يكتب وصيته، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة وغيرها من أعمال صالحة.

وقد روى ابن أبي الدنيا حديثاً: (المحروم من حرم وصيته)، أي: المحروم حظاً من حرم كتابة الوصية، وقد مضى بنا في أول الباب حديث أن المرء إذا ملك شيئاً ويريد أن يوصيه فلا يبيتن ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.

وعند ابن أبي شيبة من حديث عائشة وابن مسعود: (موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف للفاجر) ومعنى أسف أي: غضب، غضب من الله عز وجل على الكافر، وراحة للمؤمن.

وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة أن يستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة، وقد نقل عن بعض الشافعية كراهة موت الفجأة.

ونقل النووي عن بعض القدماء: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك، أي: ماتوا فجأة، فلو كان مكروهاً لما أجرى الله تعالى على أنبيائه والصالحين مثل ذلك.

قال النووي: وهو محبوب بالمراقبين، أي: أصحاب المراقبة؛ وذلك لأن الأمر كما قال أحدهم: لو أن الله تعالى جعل موتي غداً، ما استطعت أن أزيد في عبادتي شيئاً؛ لأنه قائم بحق العبادة وحق الطاعة وحق المراقبة والخشية والإنابة والتوبة وغير ذلك في كل أحيانه، فلو علم أن موته غداً أو بعد غد أو بعد عام لما استطاع أن يزيد في عبادته شيئاً، فهذا بالنسبة لموت الفجأة رعب، بخلاف غيره فإنه بالنسبة له حسرة: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]؛ لأنه يعلم أن عمله ناقص، فلما جاءه الموت بغتة تمنى أن لو يرجع عند أن عاين العذاب ليعمل صالحاً.

وبهذا يتم الجمع بين قول من قال: موت الفجأة مكروه، وموت الفجأة مستحب أو لا شيء فيه، فهو مستحب لأهل الطاعة ولأهل الإيمان، ومكروه لأهل التقصير والعصيان، وبهذا تلتئم الأدلة.