للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله: (من نفس عن مؤمن كربة)]

قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن نفس عن مؤمن) هذا قيد يخرج به غير المؤمن، وأنتم تعلمون أن الإيمان إذا أطلق يشمل معه الإسلام، وإذا إطلق الإسلام شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يدل عليه، كما سأل جبريل عليه السلام النبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).

وفي حديث وفد عبد القيس الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما أنهم قالوا: (يا رسول الله! بيننا وبينك كفار مضر، ولا يمكن أن نصل إليك إلا في الأشهر الحرم فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا.

قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتودوا الخمس من المغنم).

فعرف النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان في هذا الحديث بما عرف به الإسلام في حديث جبريل، فدل هذا على أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يدل عليه، كما قال له: (وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).

مع أن مدلول الإيمان هنا وأصول الإيمان هنا لم تكن هي نفس أصول الإيمان في حديث وفد عبد القيس، بل جعل الإيمان في وفد عبد القيس هو الإسلام؛ لأنه لم يذكر الإسلام.

فهذا يبين لنا معنى كلام الفقهاء: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في دليل افترقا في المدلول، وإذا افترقا في الأدلة شمل كل واحد منهما الآخر، وهذا معنى قولهم: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا).

مثل المسكين والفقير، عند إطلاق المسكين يشمل معه الفقير، لكن إذا كان المسكين والفقير في نص واحد فالفقير له مدلول، والمسكين له مدلول آخر.

قال: (من نفس عن مؤمن كربة).

الكربة هي أي هم وحزن وغم يدخل على المرء، سواء كان ذلك في دينه أو في ماله أو في أهله أو في أولاده أو في عمله أو في أي شيء يتعلق بهذا المؤمن، وتقييد الدليل لهذا بالإيمان -أي: بالمؤمن- إنما هو احتراز من تفريج الكرب عن الكافر.

فهذا فيه فضيلة تفريج الكرب عن أهل الإيمان والإسلام على السواء.

قال: (نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

والأمر شديد جداً، وربما لا نستشعر شدة الموقف إلا إذا كنا في موقف الحشد والحساب والجزاء.

ولذلك جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالعبد يوم القيامة فيقف بين يدي الله عز وجل ليس بينه وبينه ترجمان، فتنشر له صحيفة مد بصره، قد ملئت بالسيئات، فالله عز وجل يقول له: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ والعبد يقول: نعم يا رب! نعم يا رب! حتى إذا ظن العبد الهلكة).

أي: ظن أنه ليس بناج لكثرة ما سمعه مما قد عمله آنفاً في حياته الدنيا فيقول الله عز وجل -وهذا من فضل رحمته- (وأنا قد سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).

لكن هذا الدليل وغيره من أدلة الرجاء لا تجعل أحدنا يركن إليها؛ لأن الواحد منا لا يأمن مكر الله عز وجل، وإذا أخذك الله تعالى بفضله فهذا له سبحانه، وإذا أخذك بعدله هلكت، وهو غير ظالم لك، فاحذر أن يعاملك الله تعالى بعدله، كما ينبغي أن تعلم إذا كنت من أصحاب الكبائر فأنت في مشيئة الله إن شاء عذبك وإن شاء عفا عنك، ويكفيك وجلاً وخوفاً ورعباً أنك في مشيئة الله.