للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات)]

قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وعمرو الناقد وابن أبي عمر -واللفظ له- قالوا: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب -وهو مولى ابن عباس - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جويرية رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح)] بكرة.

أي: في أول النهار؛ وحين صلى الصبح أي: بعد أن صلى الصبح في مسجده ثم دخل على امرأته جويرية رضي الله عنها فوجدها قد صلت وجلست في مصلاها تذكر الله تعالى، قال: [(خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها -أي: في المكان الذي صلت فيه- ثم رجع بعد أن أضحى)] أي: بعد أن دخل وقت الضحى، أو بعد أن صلى الضحى وهي جالسة على حالها التي رآها عليها النبي عليه الصلاة والسلام [فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟)] يعني: أنت باقية لم تتحركي ولم تغادري هذا المكان منذ أن رأيتك بكرة.

[(قالت: نعم يا رسول الله! فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن)].

يعني: أنا قلت أربع كلمات بعد أن غادرتك وتركتك على هذه الحال ورددتها ثلاث مرات، فهي تزن جميع أذكارك في يومك وليلتك.

ومعنى (لو وزنت هذه الكلمات بما قلت لوزنتهن).

أي: لفاقتهن في الفضل والثواب.

قال: [(سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته)].

وسبحان الله وبحمده كلمة حبيبة إلى الرحمن، خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، كما جاء بذلك الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهو آخر حديث في صحيح البخاري.

فالنبي عليه الصلاة والسلام بين لـ جويرية بالدرجة الأولى فضل هذه الكلمات؛ لأنها المخاطبة بهذا، والمخبرة بهذا الثواب وفضل هذه الكلمات وإن كان الخطاب والخبر للأمة إلى قيام الساعة.

ولا يعني ذلك أنه عليه الصلاة والسلام سبح عدد الخلق؛ لأن عدد الخلق لا يمكن إحصاؤه، فلما غلب عليه الصلاة والسلام على الإحصاء لم يفكر فيه أصلاً؛ لأن الخلق نعمة من نعم الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤].

فإذا كانت نعمة الخلق لا يمكن إحصاؤها فأراد النبي عليه الصلاة والسلام إجمال ذلك وبيان أنه يريد أن يسبح الله وأن يحمده عدد خلقه، وإن كان عدد الخلق بالنسبة إليه أمراً مجهولاً ولا يمكن إحصاؤه، فإنما أجمل الكلام إجمالاً؛ ولذلك سن للذاكر المتعبد أن يثني على الله عز وجل بما هو أهله، فلما عز الإنسان أن يثني على الله عز وجل بما هو أهله؛ لأن أحداً لا يكافئ الله عز وجل في الثناء والحمد والشكر والتمجيد، فسن أن نقول: (أنت كما اثنيت على نفسك) لأن أحداً لا يبلغ الثناء الكامل التام لله عز وجل.

(لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، بعض الناس يقرؤها منقطعه؛ فيقول: (لا نحصي ثناءً عليك أنت) ويقف، ثم يقول: (كما أثنيت على نفسك)، فيصير المعنى غير مستقيم، ولكن القراءة الصحيحة التي يثبت بها الفهم الصحيح: (لا نحصي ثناءً عليك)، يعني: إذا أردنا إحصاء الثناء عليك فلا نقوى على ذلك، ولا نقدر عليه، (أنت كما أثنيت على نفسك)؛ لأن الله عز وجل أعلم بما له من ثناء وحمد وتمجيد، فإن العبد يثني على الله عز وجل بعظيم المحامد والثناء، ثم يرى أنه عاجز عن الوفاء بالحمد والشكر لله عز وجل، فيفوض الأمر إلى منتهاه، أو في منتهاه إلى الله عز وجل، يقول: يا رب! أنت تستحق أكثر من هذا الثناء والحمد، وأنت أعظم مما يمكن أن يتصوره المرء من ثناء وحمد، فأنت في النهاية كما أثنيت على نفسك، لكن ليس معنى هذا أنك تكل وتعجز عن الثناء والحمد، ولكن تحمد وتمجد وتعظم الله عز وجل.

فهنا قال عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه) يعني: سبحانك وبحمدك حتى ترضى، أي: أسبحك وأحمدك حتى ترضى عني.

وقوله: (وزنة عرشك) لا أحد يعمل زنة العرش إلا الله عز وجل؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ضرب مثلاً بالكرسي في العرش كحلقة في فلاة، قال: (السماوات السبع والأراضين السبع في الكرسي كحلقة في صحراء، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة)، إذاً: زنة العرش فوق طاقة البشر، وفوق عقول البشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (سبحانك وبحمدك وزنة عرشك ومداد كلمات) يعني: أسبحك وأنزهك وأحمدك حمداً لا منتهى له.

(ومداد كلماتك)، المداد الذي هو الحبر، لو أن الله عز وجل جعل الأشجار جميعاً أقلاماً، والبحار مداداً وجعل عباده يأخذون هذه