للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث أبي بكر: (اللهم عالم الغيب والشهادة)]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت)، تصور أن السائل هو صديق هذه الأمة، فلما علم أهمية الذكر في طرفي النهار سأل عن ذلك، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة).

يعني: يا عالم الغيب والشهادة.

والغيب هو الأمر الذي يغيب عن نظر المخلوقين، ولا يغيب عن الله عز وجل شيء؛ ولذلك أقر بين يدي الله عز وجل بأنه يؤمن أن الله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، والشهادة بمعنى المشاهد، فهذا الكأس مثلاً مشاهد، ولو أننا أخفيناه تحت الأرض لا يخفى على الله عز وجل.

إذاً: الغيب والشهادة بالنسبة لله عز وجل شهادة يراها ويعلمها، فأقر بعلم الله عز وجل الذي لا يقاس عليه علم، لو أتينا بأعلم أهل الأرض فيكون علمه في علم الله عز وجل لا شيء، وأعلم أهل الأرض هو نبينا عليه الصلاة والسلام وعلمه في جنب علم الله لا شيء، بل المقارنة لا تصح.

وكذلك السمع، تعرفون زرقاء اليمامة في البصر، لما جاءوا بـ زرقاء اليمامة المرأة التي كانت عيناها زرقاء وجميلة، وكان نظرها حاداً جداً، فكان بين قومها وبين أعدائهم حروب طاحنة، فقالوا: نأتي بـ زرقاء اليمامة تنظر إلى جهة العدو، واليمامة في نجد بجوار الرياض، فكانوا يخشون إغارة عدوهم، ولكن على أي حال تحزبوا واقتطعوا شجرة أو نخلة فجعلوها في وسط الجيش، وهم يمشون في الصحراء، فنزلت زرقاء اليمامة فقالت: أتاكم الجيش ومعه شجرة أو نخلة، قالوا: هذه المرأة مجنونة ولم يصدقوها، حتى فاجأهم وباغتهم الجيش ومعهم النخلة، فأقروا لها بحدة البصر.

وأظن أن تاريخ البشرية لم يذكر امرأة أحد في النظر من زرقاء اليمامة، وماذا يكون نظرها في نظر الله عز وجل، وبصرها في بصر الله عز وجل؟ زرقاء اليمامة لو إبرة ألقيت في بحر لا تراها، لا ترى ما تحت عينها إذا ألقيت إبرة في فلاة أو في بحر لا تراها، والله عز وجل يعلم كل شيء، ما دق وجل، ما عظم وحصر، ما صغر وكبر، لا منتهى لصفاته سبحانه وتعالى؛ ولذلك نحن نقول: الله تعالى واحد في صفاته.

يعني: متوحد ومتفرد في كل صفة أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمخلوق يسمع، والله تعالى يسمع، لكن الله متفرد في سمعه، لو جمع أسماع جميع المخلوقين ما ساوت سمع الله تعالى، بل وما قورنت بسمع الله عز وجل، وجميع العلم عند الخلق على اختلاف ألوانهم وأشكالهم لو جمع في عقل واحد لا يساوي قط علم الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق، ومع هذا يقول له: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، أي: في جنب علم الله عز وجل، والعلم الذي أوتيه الناس إنما هو من فضل الله عز وجل.

إذاً: المقارنة غير صحيحة وجائرة وظالمة، ولذلك فالله سبحانه وتعالى واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله.

يعني: إذا فعل الله تعالى فعلاً لا يمكن أن يشبه هذا الفعل أفعال المخلوقين، أو أفعال المكلفين، ولا يمكن أن يخلق الخلق مجتمعون شيئاً يضاهون به خلق الله عز وجل، ولو أجمع الخلق أجمعون منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الأرض ومن عليها لا يمكن أن يخلقوا ذبابة أو جناح ذبابة بنفس الكفاءة التي خلقها الله عز وجل.

فلا يمكن للخلق أجمعين أن يفعلوا كفعل الله، وأن يخلقوا كخلق الله، وأن يسمعوا كسمع الله، وأن يبصروا كبصر الله، وأن يعلموا كعلم الله، فهو سبحانه وتعالى واحد في كل شيء، واحد في ذاته، فلا يمكن لجميع الذوات أن تشبه ذات الله عز وجل، واحد في أسمائه، هو السميع وأنا سميع، لكن الله تعالى متفرد في سمعه، أما أنا فلست متفرداً به، وهو من فضل الله، ويشبه سمعي سمع جميع المخلوقين، والحيوانات تسمع أحسن منا وأكثر منا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا شيعت الجنازة فإن كانت صالحة قالت -أي: الجنازة تنطق- قدموني قدموني، وإذا كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين تذهبون بها بصوت يسمعه كل أحد إلا الإنسان ولو سمعه لصعق).

أي: يسمعها كل شيء حتى الحيوانات والدواب والحشرات والطير إلا الثقلين: الإنس والجن.

فقوله: (ولو سمعه لصعق) فلو سمعنا صوت الجنازة وهي تقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟ لصعقنا، فلا أحد فينا يفكر أن يصلي بعد ذلك على جنازة أو يشيعها في يوم من الأيام، ولتركنا الموتى يعطبون في بيوتنا مخافة أن نصعق، فمن رحمة الله عز وجل بالآدمي أياً كان كافراً أو مسلماً، عاصياً أو طائعاً: أن يوارى الميت بالتراب حتى لا يتأذى الأحياء.

قال: (قل: اللهم عالم الغيب والشهادة) يعني: الغائب والمشاهد، والغيب بالنسبة لله تعالى مشاهد؛ لأنه لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.