للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بنا ما أنطق لساننا بشكرهم. ثمّ دخلنا إلى المدرسة، بينما كانت الموسيقى المدرسية تصدح بالسلام الخديوي، وكان التلاميذ جميعاً مصفوفين صفوفاً منتظمة، وكلّهم يترنّمون بالأناشيد والأدوار الّتي كانت تتضمّن الدعاء للحضرة الفخيمة الخديوية. فمررنا على صفوفهم يحيّوننا ونحيّيهم، إلى أن دخلوا بنا في قاعة واسعة جميلة، كانوا أعدّوها لاستقبالنا وزخرفوها ووضعوا فيها كراسي متعدّدة، وجعلوا في صدرها كرسيّاً خاصّاً ممتازاً فأجلسوني عليه، وجلس على يميني حضرات وكيل البطريك وكبار القسيسين والرهبان. ولمّا أن استقرّ بنا المجلس، قام قسّيس من هؤلاء وألقى خطبة باللّغة العربية، ضمّنها أوّلاً مدح مصر وذكر فضائلها، ومدح الأسرة الحاكمة الخديوية، ثمّ تكلّم على مناقب المغفور له محمد علي باشا ومحاسنه في الشرق. وقد أفاض في هذا الموضوع، تمهيداً منه للردّ على بعض شبّان الأتراك الّذي كان كتب مقالة ضافية في إحدى الجرائد، جعل لحمتها وسداها الانتقاد على أسرة محمد علي باشا واختصّنا منها بجانب عظيم، لا ندري ماذا كان سببه. فقال الخطيب ما ملخّصه: إنّه لا ينكر أحد من الشرقيّين والغربيّين ما كان للأمير الكبير المرحوم محمّد علي باشا من الأعمال الجليلة والفضائل الكثيرة الّتي نهضت بالشرق إلى ما جعله مع الغرب في مستوى واحد. ولولاها لما كان يقوم

الشرق من وهدته ويستيقظ من رقدته. وهي التي لا تزال تمرّ عليها الأزمان ويراها الناس آناً بعد آن، وتترسّل بها الأنباء بين الآباء والأبناء، إلى أن قال ما مفاده: وإنّي لا أعجب من شيء في الدنيا عجبي من واحد تكون الحقيقة واضحة أمامه، يراها بعينه ويلمسها بيده، ومع ذلك ينكرها. وهو يحسب أنّ إنكاره هذا يؤثّر في تلك الحقيقة ويجعلها في نظر الناس مثل ما هي في نظره.

الشيء الثابت لا يضرّه عدمه مطلقاً. ولكن الّذي استطاع أن يخدع نفسه، ويفرض عدم الموجود أو وجود المعدوم ليعيش في عالم الفروض والتقادير، هو ذا حقيقة المسكين الّذي ما استفاد من عمله سوى أنّه شوّش دماغه وملأه خيالاً، كالأروى الّذي غرّته قوّته فحسب أنّه إذا نطح الصخرة أوهنها ونفذ في أحشائها.

<<  <   >  >>