للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (رب نجني وأهلي مما يعلمون إلا عجوزاً في الغابرين)

ثم دعا ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:١٦٩] فذكر الله عز وجل هنا اختصاراً: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:١٧٠] ولم يذكر كيف أنجاه الله عز وجل؟ وقد فصل الله ذلك في غيرها من السور، فقد تكررت قصة لوط بتفصيل في حوالي تسع سور من كتاب رب العالمين سبحانه، فيذكر فيها لوطاً ودعوته قومه إليه سبحانه وتعالى، وأنهم كذبوه، فذكر في الأعراف شيئاً، وذكر في سورة هود أيضاً شيئاً من ذلك، وفي الشعراء، وفي العنكبوت، وغيرها من السور.

فهنا لما دعا ربه سبحانه قال الله عز وجل: {فَنَجَّيْنَاهُ} الفاء: تفيد الترتيب والتعقيب، يعني: مباشرة نجيناه من ذلك، وجاءت عقوبة الله سريعة حتى وإن كانت في نظر أنها بطيئة؛ لأنها بمجرد ما نزلت وحدثت يقول الإنسان: أين هؤلاء؟ أين ذهبوا؟ فقد أخذهم الله سبحانه أخذاً سريعاً، وقد يكون هو المستبطئ للعقوبة قبل ذلك، فلوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام كأنه قد استبطأ العقوبة، فقال له الرسل عليهم السلام: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:٨١] فقد كان لوط في غاية الحزن والضيق، وكان يريد أن يقع عليهم العذاب بسرعة فإذا بالرسل يطمئنونه ويقولون: ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)) أي: اصبر حتى الصبح وسيأتي العذاب من عند رب العالمين سبحانه.

وفي سورة هود يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:٧٧] فهنا ذكر التفصيل للإهلاك، وأما في الشعراء، فقال الله عز وجل: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ} [الشعراء:١٦٩ - ١٧٠] ولكن كيف نجاه الله عز وجل؟ اختصر ذلك في هذه السورة، والفواصل في هذه السورة قصيرة، والآيات كثيرة وعددها مائتان وسبع وعشرون آية على عد، أو مائتان وست وعشرون آية على عد آخر، فالسورة طويلة، لكن فواصلها قصيرة، فالمناسب هنا أن يختصر فيها، وخاصة مع تكرار ذكر الأنبياء على وجه الاختصار، وكيف أن الله عز وجل أهلك أممهم لما كذبوا وأعرضوا.

فهنا دعا ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:١٦٩ - ١٧١].

وفي سورة هود يقول الله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:٧٧].

وفي سورة الحجر يقول الله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحجر:٦١ - ٦٤].

إذاً: ذكر الله عز وجل أن هناك رسلاً قد جاءوا إلى لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم ملائكة من عند رب العالمين سبحانه، وقبل أن يذهبوا إلى لوط عليه الصلاة والسلام ذهبوا إلى إبراهيم الخليل، فقد كان إبراهيم في الشام ولوط في مكان آخر، وكان الرسل ثلاثة ملائكة في هيئة البشر حسان الوجوه، فلما رآهم إبراهيم دعاهم فهو أبو الضيفان عليه الصلاة والسلام، وسبق إلى بيته وجاء بعجل حنيذ، أي: مشوي بالحجارة، فهذا لثلاثة من الضيفان، وقدم إليهم الطعام وقال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٧].

قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:٧٠] فكونك تدعو إنساناً إلى طعام وتحط الطعام أمامه وهو غريب ثم بعد ذلك لا يرضى أن يمد يده، فإنك تتوجس خوفاً منه؛ لأنه قد يكون عدواً أو ينوي شراً، وكان العرب إذا صادقوا أحداً أكلوا معه، وإذا عادوا إنساناً لا يأكلون معه؛ ليظهروا أنه ليس هناك بينهم وبينه مودة.

فالرسل أبوا أن يأكلوا، فإذا بإبراهيم يتوجس في نفسه خيفة، فطمأنوه، قال تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:٧٠] أي: نحن ذاهبون إلى قوم لوط، فاستبان له الأمر أنهم رسل من عند رب العالمين في هيئة بشر.

قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:٧١] أي: امرأة إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام سارة قائمة، وقد جاوزت الثمانين من عمرها، وقد بشرها الرسل بإسحاق، وذلك حين علمت أن معهم البشارة من عند رب العالمين لها بأن الله سيرزقها الولد، قال تعالى: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:٧١] أي: بعد إسحاق سيأتي يعقوب من إسحاق، وهذا دليل على كذب أهل الكتاب حين قالوا: إن الذبيح هو إسحاق حتى لا ينسبوا للعرب فضلاً.

وذكر الله في القرآن أن الملائكة بشرت سارة قبل أن تلد وكانت عقيماً، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:٧١] يعني: إسحاق سيكبر، وسيتزوج وسينجب ولداً اسمه يعقوب، فكيف تأتي البشارة من الله سبحانه بذلك ثم يأمر إبراهيم بذبحه قبل أن يتحقق الوعد، وقبل أن يأتي يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟! فذلك ينفي أن يكون الذبيح هو إسحاق، فالذبيح هو إسماعيل، والغرض: أنهم بشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فقالت: مندهشة: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:٧٢]، فهي عجوز وزوجها شيخ كبير، فهي قد جاوزت الثمانين من عمرها، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:٧٢].

قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} [هود:٧٤] أي: هدأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد خوفه من الضيوف الذين دخلوا بيته وأبوا أن يأكلوا، وبعد أن اطمأن إبراهيم جاءته البشارة من الله بأنه سيولد له مولوداً وكان قد ولد له قبل ذلك إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكنه كان يتمنى أن يكون له ولدٌ من سارة، حتى تفرح سارة كما فرح إبراهيم بإسماعيل، فالله عز وجل بشر سارة، فلما ذهب عن إبراهيم الورع جاءته البشرى، ثم سأل المرسلين عن وجهتهم فقالوا: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:٣٢ - ٣٤].

وقد كان إبراهيم حليماً رحيماً، فهو أب لأبنائه وأب لمن أرسل إليهم ليدعوهم إلى الله عز وجل، ولذلك أخذ يجادلهم في قوم لوط، فقالوا: قوم مسرفون، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:٧٤].

وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:٧٥] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإبراهيم حليم، ولذلك كان يطلب منهم أن يصبروا عليهم قليلاً.

فقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ} [هود:٧٥] أي: رجاع إلى الله سبحانه وتعالى، إذاً: الرحمة التي في قلبه هي التي جعلته يقول لهم: اصبروا على هؤلاء القوم، فقال له ربه سبحانه: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:٧٦] أي: لا شأن لك بذلك، قال تعالى: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:٧٦] أي: قد جاء أمر الله عز وجل، وقضاء الله وقدره نافذ لا رجعة فيه، فقد قال إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يجادلهم: أتهلكون قريةً فيها ثلاثمائة مؤمن؟ يعني: إذا كانت هذه القرية فيها ثلاثمائة يعبدون الله سبحانه وتعالى أتهلكونها فتهلكون هؤلاء المؤمنين معهم؟! قالوا: لا، فجادلهم أكثر وانتظر الخير من وراء ذلك، فقال: فمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا، فما زال يجادلهم حتى قال: فيها ثلاثة من المؤمنين؟ قالوا: لا، قال: فإن فيها لوطاً، فكيف تهلكونها وفيها لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:٣٢] فقد كان للوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام امرأة كافرة وبنتان مؤمنتان، فسننجيه والبنتين فقط، وأما الآخرون فسنهلكهم، وكذلك امرأته سيأتيها العذاب من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وخرجت الرسل من عند إبراهيم، وتوجهوا إلى قرية سدوم، ولما جاءوا القرية أتوا بالليل؛ فتنة وابتلاء من الله عز وجل، فقوم لوط قوم شواذ يأتون الذكران من العالمين، فيبتليهم الله بشبان حسان يأتون إلى هذه القرية في غاية من الجمال، ولما رأت بنت لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام الشبان -وهي مؤمنة- خافت عليهم، فقد أرادوا دخول هذه القرية وطلبوا الضيافة في هذه القرية؟ فقالت لهم: اصبروا مكانكم ولا تدخلوا؛ فإن القوم قوم سوء، وهرعت إلى أبيها لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقالت: جاء إلى القرية شبان ما رأيت مثل وجوههم أدركهم لا يفضحهم قومك، فخرج لوط فلما رآهم (قال هذا يوم عصيب)، أي: يوم صعب شديد، إذ إنه لا يستطيع حمايتهم لوحده؛ ولذلك قال لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠]، وكأنه نظر أن إبراهيم كان له من يحميه ومن ي

<<  <  ج:
ص:  >  >>