للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حوار هرقل لأبي سفيان]

من أذكى هؤلاء الملوك الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم هرقل عظيم الروم، فقد كان رجلاً ذكياً جداً، وكان منجماً ذا عقل عجيب جداً.

فسأل من عنده عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان عنده أبو سفيان، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم حوالي عشرة أسئلة يعرف بها صدق ادعائه للنبوة من عدلها، فسأل أسئلة تدل على فطنته وعلى عقله، فقال: هل كذب هذا الرجل عليكم قبل ذلك؟ قال: لا ما كذب قبل ذلك.

قال: لو كان كذب قبل ذلك لقلنا يكذب، فكيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى؟ ثم قال: هل كان من آبائه ملك؟ قال: لا، ما كان في آبائه ملك، قال: لو كان من آبائه ملك لقلنا: يطلب ملك أبيه.

ثم قال: هل قال هذه المقالة أحد من قبله؟ قال: لا، لم يقلها أحد من قبله، قال: لو قالها أحد من قبله لقلنا: يستن بهذا الذي من قبله.

وظل يسأله حتى قال: هو رسول رب العالمين، وهذا الرجل كاد أن يسلم، فقد جمع كبار القوم بداخل القصر، وأمر أن يغلقوا عليهم أبواب القصر لكي لا يخرج أو يهرب أحد، وقال لهم: إني أدلكم على أمر رشد فهل لكم في طاعتي؟ قالوا: فبماذا تأمر؟ قال: أطيعوا هذا الرجل، إنه رسول رب العالمين.

فصاحوا ونخروا وجروا إلى الأبواب، وقد كان أقفل عليهم الأبواب فناداهم وقال: تعالوا تعالوا إنما كنت أمتحنكم فقط، ولما وصل الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ظن بملكه) يعني: عرف الحق، ولكن ظن بملكه عن أن يسلم، أي: أنه إذا أسلم ضاع عليه ملكه.

وهذا مع عقله ولكنه طمع في الدنيا، فالإنسان قد يدفعه ملكه وماله ومنصبه إلى البعد عن الله سبحانه وتعالى؛ خوفاً من أن يضيع منه ذلك، فكأن بلقيس كانت كذلك، فعبدت الشمس من دون الله مع قومها، وكأنها عرفت الحق، لكن صدها الذي كانت تعبده من دون الله وقومها أيضاً، فخافت وظلت على ما هي فيه، فصدها هذا عن عبادة رب العالمين.

قال تعالى: {إِنَّهَا كَانَتْ} [النمل:٤٣]، وكأن (إنها) هنا تعليلية؛ أي: لأنها كانت من قوم كافرين.

فقومها كانوا كافرين، فكان الصد لها أكبر، ولعلها إن تركت هؤلاء القوم يخرجونها ويأخذون منها ملكها، فقال لها سليمان عليه الصلاة والسلام، أو قيل لها: {ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:٤٤]، وهذا الصرح صنعه الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام بأمره، وكان يبدو وكأنه قصر على الماء فيه صحن واسع يدخل منه من يدخل على هذا المكان فوق الماء، والصرح الممرد يعني: المصنوع من شيء رقيق، بحيث يظهر ما بداخله، وكأنه قوارير.

فهذا صرح ممرد من قوارير يعني: مصنوع من زجاج في غاية الصفاء، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:٤٤]، ولما قيل لها ذلك نظرت وتحيرت أهل تدخل في الماء؟ فنظرت إلى الماء وكشفت عن ساقيها لتدخل، فمن شدة صفائه ظنت أنه يأمرها أن تغوص في الماء، فكشفت عن ساقيها، فقال لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:٤٤]، وسليمان عمل ذلك لترى آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فقد رأت كيف أتي بالعرش من مكان إلى مكان، وآية أخرى وهي أنه بنى صرحاً فوق الماء بحيث أنها ترى الماء تحته، فهي الآن أمام معجزة أكبر، فكشفت عن ساقيها ولم تصدق أن هذا شيء غير الماء.

فلما قال لها ذلك قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:٤٤]، أي: أعلنت أنها مؤمنة واعترفت بأنها ظلمت نفسها، فعرفت الحق ووحدت الله سبحانه، وعرفت الآن أنه الرب الذي لا إله إلا هو، وأنها ستعبده مع سليمان ومع قومه المؤمنين.

وعندما قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:٤٤]، فكأنها اعترفت بكفرها وبظلمها لنفسها بعبادة غير الله سبحانه، ثم قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل:٤٤]، أي: أسلمت لله مع سليمان، ولم تقل: أسلمت لسليمان، فالطاعة إنما هي لرب العالمين سبحانه، وأعلنت أنها أسلمت للإله المعبود الذي يستحق العبادة، الخالق لكل شيء.

وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لكشفها ساقيها، وقد ذكر الله سبحانه أنها رأت لجة من الماء فكشفت عن ساقيها، فنحن نقف مع نص القرآن ولا نزيد على ذلك، فلسنا بحاجة لأكثر من ذلك من خرافات يذكرها البعض، أو إسرائيليات نحن في غنىً عنها.

فالذي جاء في القرآن: أنه صرح ممرد في غاية النقاء والصفاء، فكأنها لم تر أمامها إلا الماء، فلما وضعت قدمها عرفت أنه زجاج وليس من ماء، وتلك قدرة ربانية وآية من الآيات، وليس السبب من كشفها لساقيها: أن يرى هل في ساقها شيء أم لا؟ فإن هذا نبي معصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعظمة ذلك الصرح تظهر في أنه خفي عليها ذلك، ولم يخف عليها العرش.

فقيل لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:٤٤]، فدخلت الصرح واعترفت بأن الرب الخالق سبحانه هو الذي يستحق العبادة، وأما هل تزوجها سليمان أو زوجها لأحد جنوده، أو أرجعها إلى قومها؟ ف

الجواب

أن القرآن لم يهتم بهذا الشيء، وكونه لم يذكره فإنه دليل أنه لا أهمية له، فلا حاجة لنا إلى أن نتتبع ما ذكره المفسرون في ذلك، ولا نذكر إلا ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>