للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جرائم قوم لوط عليه السلام]

قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:٥٥]، الهمزة للاستنكار والاستفهام، يقول: أتفعلون ذلك الفعل القبيح الشنيع، فتأتون الرجال دون النساء؟! وقوله: {أَئِنَّكُمْ} [النمل:٥٥]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر وأبو عمرو: (آئِنكم) بالمد فيها، وقرأها ورش وابن كثير ورويس عن يعقوب {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} [النمل:٥٥]، بهمز ثم تسهيل بعدها.

وقرأها هشام بالوجهين، (آئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء)، و {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:٥٥]، وهذه الأخيرة قراءة الجمهور.

{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} [النمل:٥٥]، أي: تضعون شهوتكم في رجال مثلكم دون النساء اللاتي خلقهن الله عز وجل من أجلكم، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥]، فهو قد دعاهم إلى الله عز وجل وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تكن هذه المعصية هي معصيتهم الوحيدة، ولكنها كانت أشنعها، فذكرهم بها، ومنعهم منها، ونهاهم عنها.

ولم يكونوا يكتفون بفعل هذه الفاحشة مع أهل بلدهم، ولكن كانوا ينتظرون الغرباء أن يأتوا، فيستولون عليهم ويفعلون معهم هذه الفاحشة، لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، فقال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥].

أي: أهل جهل، كما يقال عن إنسان: فلان جاهل، يعني: أخلاقه سيئة، أي: فحشت أخلاقه، وكذلك هؤلاء، فعندما قال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥]، فإن الجهالة بمعنى: الفحش، وبمعنى: الوقوع في السيئات من الأعمال، وإلا فهم يعرفون أنها حرام؛ ولذلك ذكر الله عز وجل أن من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣]، فالمؤمنون عباد الرحمن إذا مروا بجاهل ابتعدوا عنه، فإذا خاطبهم الجاهلون بلسان الأذى ردوا عليهم: سلاماً، أي: مسالمة ومتاركة بيننا وبينكم، فما لكم عندنا من شيء، فيتركونهم ولا يجيبونهم بمثل فحشهم وجهلهم وصخبهم واعتدائهم، وإنما يقولون: ((سَلامًا)).

إذاً: فهنا الجهل الذي هم فيه ليس هو عدم المعرفة، فهم يعرفون أنها حرام، ولكنها عدم معرفة من نوع آخر، وهو عدم معرفة الله سبحانه وتعالى، وعدم تقدير الله حق قدره كما قال الله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١]، أي: أنهم عرفوا الله ولكن لم يعبدوه سبحانه حق العبادة، ولم يخافوا منه سبحانه وتعالى الخوف الحقيقي الذي يبعدهم عن معصيته سبحانه، وهذا من الجهل، وذلك مثل بني إسرائيل عندما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:١٣٨]، فـ ((تَجْهَلُونَ)) هنا ليس معناها: لم تعرفوا ربكم؛ فهم عرفوا ربهم، وهم يدعونه.

ولكن وصل الأمر بهم إلى أنهم لم يقدروا الله حق قدره، فأرادوا شيئاً مجسداً أمامهم حتى يعبدوه من دون الله سبحانه.

إذاً: فقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥]، من جنس هذه الجهالة، أي: أنهم لم يقدروا الله حق قدره سبحانه وتعالى، ففعلوا هذه الفاحشة، وجهلوا ما وراء ذلك من عقوبة، أو تناسوا هذه العقوبة، فكأنهم كالجاهلين {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥].

<<  <  ج:
ص:  >  >>