للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ذكر ما حدث لموسى عند وروده ماء مدين والفوائد التي نستفيدها من هذا الحدث]

قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:٢٢]، أي: خرج ناحية الشام إلى بلدة مدين {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:٢٢ - ٢٣]، أي: وجد خلقاً غفيراً من الناس، يسقون من بئر فيها المياه، يردون بإبلهم ومواشيهم وأغنامهم، فيسقون من هذه البئر، ووجد امرأتين من دونهم متخلفتين متأخرتين عن الناس، تذودان أي: تمنعان ما معهما من الغنم عن الورود حتى لا تضيع الأغنام، وهما لا تقدران على مزاحمة الناس، فاستشعر فيهما الضعف، فسألهما عن حالهما فقال: {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:٢٣]، بمعنى: أي خطب حل بكما، وما المصيبة التي أنتما فيها بحيث إنكما لا تقدران على السقي، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣].

هنا أخبرتا موسى عليه الصلاة والسلام، فقالتا: لا نقدر على السقي مع هذا الزحام الشديد، وهذا يدل على حياء الفتاتين، قالتا: وأبونا شيخ كبير.

إذاً: السبب في ذلك: أن الأب كان شيخاً طاعناً في السن، وكذلك كان ضعيفاً لا يقدر على ذلك، وقالوا أيضاً: إنه كان ضريراً، فهو لن يقدر على أن يسقي الغنم والإبل وهو على هذه الحالة، ولذلك خرجت الفتاتان وهما في غاية الحياء لا تقدران على مخالطة الناس مزاحمتهم، فكان منهما الانتظار حتى ينصرف الناس من هذا المكان، فتردان بما معهما من الأغنام للسقيا.

قال تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:٢٤]، أي: أن موسى عليه الصلاة والسلام، أخذ ما معهما من إبل وغنم، فورد بهما وزاحم الناس وسقى لهما.

وقيل: بل إنه وجد بئراً مغطاة، وكان عليها غطاء لا يرفعه إلا عشرة من الرجال أو أكثر من ذلك، فرفعه موسى عليه الصلاة والسلام وحده، وسقى من هذه البئر، فالله أعلم، ولكن قد حدث من موسى ما يدل على أنه قوي شديد القوة، حيث إن قوته كانت في أنه قطع أكثر من ألف كيلو متر ماشياً على قدميه صلوات الله وسلامه عليه، هارباً من فرعون، لا طعام معه ولا زاد إلا ما يجده في طريقه من أوراق الشجر ونحو ذلك، فهذا كان طعامه، ولذلك لما انتهى من السقي لهاتين الفتاتين دعا ربه سبحانه وتعالى أن ينزل عليه من خيره.

ولما سقى لهما تولى إلى الظل، ونستفيد من ذلك أنه: لا يمتنع صاحب المعروف أو الإنسان المحسن من عمل المعروف حتى ولو كان به شيء من الضرر، فموسى كان مضروراً من خوفه من فرعون، ومن فراره وهربه، ومن مشيه هذه المسافة العظيمة البعيدة، ومن جوعه وعدم وجود ما يأكل، ومع ذلك سقى لهما وفعل بهما هذا المعروف العظيم، فذهبت الفتاتان، وموسى تولى إلى الظل عليه الصلاة والسلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤]، أي: إني مفتقر إلى خيرك الذي تنزله علي، يعني: قد عودتني يا رب على الخير من عندك، وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي عندك.

وهذا القول فيه أدب عظيم في الدعاء، وذلك أنه لم يقل: يا رب أنت حرمتني من الخير، يا رب أنت جعلتني جائعاً وأنت جعلتني عطشان، ولكن قال: أنت يا رب تنزل علي الخير دائماً، وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي تنزله علي.

قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ} [القصص:٢٥]، والفاء تفيد الترتيب والتعقيب، أي: فأجاب الله دعاءه حالاً وجاءت إحدى الفتاتين تمشي على استحياء، فمدحها الله سبحانه وتعالى أنها في غاية الحياء، أي: ليست ماشية في وسط الطريق، ولا هي تقتحم الرجال وتأتي موسى، بل إنها حين جاءت إلى موسى أتت إليه وهي في غاية الحياء، مستترة متغطية، وهي تطلب من موسى ما أمرها أبوها.

قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:٢٥]، ولم تقل: تعال أريدك في كلمة، بل جاءت إليه وأخبرته أنها ليست هي التي طلبته، وإنما الذي يريده أبوها.

{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥]، هذا كلام فيه الجد، ولا يعتريه الهزل، وليس فيه ميوعة وليس فيه استطالة واستفاضة، إذاً: لا بد للمرأة حين تكلم الرجل أن تتكلم باستحياء، وتتكلم على قدر ما تريده فقط؛ ولذلك علم الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتكلمن مع الغرباء فقال لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:٣٢]، أي: أنتن في غاية التقوى، ولكن لا يدفعكن هذا إلى الخضوع في القول: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:٣٢].

والإنسان قد يلين في القول من ناحية التواضع، ولكن إذا كان هذا التواضع سيطمع فيه من أمامه فلا داعي لهذا اللين في القول حتى لا يطمع فيه السفيه، ولذلك كانت هذه هي عادة المؤمنين التي مدحهم الله عز وجل عليها، أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين.

إذاً: المؤمن لا يكون متواضعاً مع الكافر، ولا خانعاً له، ولكنه عزيز عليه، فلو أنه خنع خضع للكافر فهذا سيجعل الكافر يستكبر عليه، ويطلب منه ما لا يجوز للمؤمن أن يعطيه إياه، فلذلك كان المؤمنون أعزة في دين الله عز وجل على الكافرين، متواضعين فيما بينهم.

وأما التواضع في النساء فلا يوجد مانع من التواضع، ولكن إذا كان التواضع يدفع للخنوع واللين في القول بحيث يطمع فيها الذي أمامها، ويظن أنها تريد شيئاً، فيراودها عن نفسها، فهذا لا يجوز، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:٣٢].

فهذه الفتاة جاءت لموسى عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:٢٥]، فقد ظهر أدبها في مشيتها، وقالت له كلاماً فصلاً.

قوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:٢٥]، لماذا يدعوك؟ فلا بد أن توضح له، فمن الممكن أن موسى عليه الصلاة والسلام سوف يفكر لأي أمر من الأمور يريدني، ففصلت له هذا الشيء وأخبرته أنه يريد أن يعطيه أجرته على الذي عمل معهما، قال تعالى: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥].

إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي، وقد علمه الله وأدبه ورباه، وإن كان حتى هذا الحين لا يعرف عن نفسه أنه سيكون نبياً إلا ما كان من وحي لأمه وهو ما زال طفلاً، وربما حدثته بذلك، وربما لم تحدثه، فقد أخبرها سبحانه وتعالى بذلك، قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧]، ولكن موسى إلى هذه اللحظة لم يوح إليه أنه سيكون نبياً أو رسولاً عليه الصلاة والسلام.

إن هذه الفتاة وضحت لموسى سبب دعوة أبيها له، فقالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥]، ويظهر هنا أيضاً أدب موسى أنه لا كلام مع الفتاة؛ لأن الكلام مع الفتاة يفتح موضوعاً كبيراً قد يؤدي إلى الفتنة، فلم يقل: أنا لا آخذ أجرة، أنا عملت معروفاً ولا آخذ على المعروف شيئاً، فإن موسى إذا فعل ذلك سيفتح مجالاً للكلام، ولذلك لم يتكلم معها أكثر من أنه انصرف معها، وهي أمامه تدله على الطريق، فلما سارت أمامه هبت رياح كشفت جسدها؛ فقال لها: تنحي، وأمرها أن ترجع إلى الخلف، حتى يمشي هو أمامها، وهي تدله على الطريق.

فجاء موسى عليه الصلاة والسلام إلى هذا الرجل، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص:٢٥]، وفيه دلالة على تبادل الحديث فيما بينهما.

{قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥]، فقد كان موسى إلى هذه اللحظة خائفاً من فرعون أن يصل إليه في هذا المكان، فأخبره الرجل أن فرعون لا سلطان له في هذه البلدة، وبهذا نجوت يا موسى، فقد هربت منه ونجاك الله عز وجل من هؤلاء القوم الظالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>