للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دعاء يونس في بطن الحوت]

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:٨٧]، أي: دخل بطن الحوت وهو مظلم، وهو في جوف البحر المظلم، وجاء عليه الليل المظلم، ظلمات بعضها فوق بعض، ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، هذا نداؤه ودعوته التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (دعاء ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له)، هذا دعاء عظيم جداً؛ لأن فيه توحيد الله سبحانه وتعالى، وفيه الاعتراف بالتقصير والذنب، وأن الإنسان ظالم لنفسه وظالم لغيره.

فلما قال هذا استجاب الله عز وجل له، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:٨٨] أي: مباشرة، ألهمه الله عز وجل ما يقول فاستجاب له سبحانه، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:٨٨] هنا ما قال: (فاستجبنا له فنجيناه من الغم) وإنما قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاه} [الأنبياء:٨٨] لأنه لو قال: (فنجيناه) لكان المعنى: أننا استجبنا ولكن أبطأنا في نجاته، ولكن لما قال: (ونجيناه) أي: استجبنا له وحالاً كانت النجاة من الله عز وجل، فهذه الكلمة لها شأن عظيم عند الله عز وجل، فهو عندما قالها أنجاه الله سبحانه وتعالى.

ثم قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٨]، وهذا تفضل الله عز وجل وكرمه على عباده، فقوله: ((وَكَذَلِكَ)) أي: وهذا الإنجاء ليس مختصاً بيونس عليه السلام، بل كل إنسان مؤمن يرجع إلى ربه ويستغيث بربه ويقول ذلك ننجيه كذلك من البلاء ومن الكرب.

قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِيَ} [الأنبياء:٨٨]، بصيغة المضارعة، وهذه قراءة الجمهور.

وقراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم ((وَكَذَلِكَ ُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ))، على صيغة الماضي.

والمعنى: أن الله عز وجل نجى المؤمنين من قبل ومن بعد، فكما نجى الله عز وجل يونس نجى غيره.

إن قصة ذي النون على نبينا وعليه الصلاة والسلام يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى، فيخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يسيء الظن، فقال: (لا تفضلوني عليه، أو لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس) فلا ينبغي لك أن تقول على نفسك ولا على النبي إنه أفضل من يونس، والمعنى لا تقل: لو كنت مكانه كنت عملت كذا، أو تقول: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم مكانه كان عمل كذا، هذا لا ينبغي لأحد أن يقوله، ولا أن يخير بين الأنبياء على وجه التحقير للبعض الآخر.

ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يستجيب الله له في البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء)، يعني: إذا كنت تريد أن يستجيب الله لك الدعاء عندما ينزل بك كرب، فأكثر من الدعاء، وعود الملائكة سماع صوتك باستمرار، حتى تقول: يا رب يا رب، ففي وقت الكرب ينفعك ذلك، فسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام كان كل يوم يصعد إلى السماء منه تسبيح وصلاة وأعمال صالحة، والملائكة اعتادوا على ذلك، فلما حبس في بطن الحوت إذا به يقول: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، والملائكة تسمع صوتاً بعيداً فيقولون: يا ربنا صوت غريب من مكان بعيد، يقول: أما تعرفونه ذاك عبدي يونس، فيقولون: يونس الذي لم يزل يصعد إليك منه عمل متقبل، فالله عز وجل يلهمه أن يقول هذا الدعاء لينجيه بفضله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>