للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)]

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:٤٧] أي: كما أنزلنا كتب السابقين من السماء على هؤلاء الأنبياء كذلك أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وهو القرآن.

قال تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:٤٧] أي: آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وما نزل عليه من القرآن، فهم يؤمنون ويصدقون بذلك.

إذاً: هنا المؤمنون هم الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم.

أو أن قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [العنكبوت:٤٧] يعني: من اليهود والنصارى من عرفوا البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا القرآن فآمنوا وصدقوا، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في هذا القرآن الذي جاء به، ونظر في علامات نبوته فآمن وصدق رضي الله تعالى عنه.

ثم قال: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت:٤٧] إذاً: هنا المسلمون آمنوا، جاءهم الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، وكذلك من أهل الكتاب من آمن من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم.

وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:٤٩] أي: الذي يجحد ويكذب مع معرفته بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الظالم.

فـ عبد الله بن سلام كان مع اليهود في مدارسهم وفي بيته يتعلمون منه ومن غيره، ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد لهم، ودعاهم إلى دين الله سبحانه؛ فإذا باليهود يكرهون ذلك منه، فطلب منهم الإيمان بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، فرفضوا وأبوا واستكبروا، حتى سألهم: (أما تجدون صفتي عندكم؟ فقالوا: لا) فلما أراد الخروج فإذا بـ عبد الله بن سلام ينادي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنك على الحق، ويتبع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أنه على الحق، ومعرفتهم بذلك حقيقية؛ ولذلك الله عز وجل يشهد عليهم فيقول: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:٢٠] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون ما جاء به؛ كما أن الإنسان يعرف ابنه ولا يخطئ فيه.

قال سبحانه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} [العنكبوت:٤٩] أي: يكذب وهو يعلم: {إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:٤٧] أي: من كفر فهو يجحد بآيات الله سبحانه ويكذب بها.

وقد ذكرنا أن الإنسان المؤمن لا يتعرض للجدال مع أهل الكتاب إلا بالحسنى، والمتعرض لهم بالجدال يحتاج أن يطلع على كتبهم حتى يرد عليهم، لكن الذي يطلع ليرد ليس كل إنسان مسلم يفعل ذلك؛ ولذلك يقول الإمام البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)، فيذكر الحديث تعليقاً، ويذكر الحافظ ابن حجر حديثاً أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب) أي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له أصدقاء من أهل الكتاب فطلب من بعضهم أن ينسخوا شيئاً من التوراة فكتبوه له، فأخذ الصحيفة وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الصحيفة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

إذاً: عمر المسلم ووقته لا يتسع للاطلاع على كل كتب أهل الكتاب وعلى كلامهم، ولعله إذا اطلع على ذلك يطلع على شيء فيكون من الحق الذي جاء به موسى أو الذي جاء به عيسى عليهما الصلاة والسلام؛ فيكذب بهذا الشيء فيكون قد كذب بكلام حق من عند الله عز وجل، أو يطلع على شيء يكون باطلاً مما حرفه أهل الكتاب فيصدق بهذا في نفسه فيكون مكذباً بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قطع عنهم ذريعة الوقوع في ذلك ومنعهم من قراءة كتب أهل الكتاب.

وهنا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦] إذاً: ضروري للذي سيجادلهم أن يكون مطلعاً على ما يقولون، فمثلاً: لما جاء عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليباً، وكان يناقش النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن ينزع الصليب عنه، ثم بعد ذلك دعاه إلى الدين فقال: أنا على ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك، منك ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك ولا يحل لك في دينك؟) فهنا بهت الرجل ولم يعرف الرد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى وقد جعل نفسه أنه رجل من أهل الدين وأنه يعلم النصرانية جيداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه ويقول له: أنت من فرقة الركوسية من النصرانية، وتأكل مرباع قومك، وذلك يحرم عليك في دينك أن تأكل ضريبة قومك، تأخذ الربع من أموال قومك وأنت تعرف أن هذا لا يحل لك في دينك، فهنا عرف الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرى منه بدينه، فإذا به يدخل في دين الله عز وجل ويستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: المناظر الذي يناظر أهل الكتاب لا بد أن يطلع على ما يرد عليهم به، ولذلك كأنه يستثنى ذلك؛ لهذه الآية: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦].

إذاً: العلماء من المسلمين يجوز لبعضهم أن يطلع على كتب هؤلاء ليرد عليهم إذا ناظروا المسلمين وناقشوهم في دينهم.

أما أن كل المسلمين يقرءون في كتب أهل الكتاب، فهذا حرام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فليس كل إنسان يقرأ يفهم، ولكن الذي درس القرآن ودرس سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم ذلك وعقله، فهذا الذي يجوز له في حالة الجدال مع أهل الكتاب أن يطلع ليرد على كلامهم.

وأيضاً جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وقال في رواية: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا) أي: كيف سيهدونكم وهم قد ضلوا عن سبيل الله سبحانه؟! قال: (وأن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل) يقول المهلب: هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه.

وعندما أمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الذين أوتوا الكتاب من قبل، قال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:٩٤] فهنا قيد: إذا كنت في شك، وهل يشك النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشا له عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نشك ولا نسأل) أي: مستحيل أننا نشك، ولا نحتاج أن نسأل هؤلاء، فقلوبنا مطمئنة بالإيمان، فكأن هذا الكلام فيه التحفيز على الإيمان والتصديق.

إذاً: هنا المؤمن يقول: لست محتاجاً أن أسأل أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا مصدق بهذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين.

للحديث بقية إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>