للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب)]

قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:٥٣].

قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أي: هؤلاء الذين جهلوا هذا الدين العظيم وجهلوا قدر ربهم سبحانه فيهم أناس طويلة ألسنتهم مثل أبي جهل والنضر بن الحارث، فكانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: أين العذاب الذي تخبرنا عنه؟ لم لم يأت إلى الآن؟ قال تعالى عن ذلك: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:١٦]، وتأمل التحدي في كلامهم، يطلبون من الله تعالى أن يرسل لهم وثيقة عذاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعله عاجلاً لا آجلاً.

والقط: الوثيقة بالشيء، فقالوا: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) أي: ما توعدتنا به من العذاب يوم القيامة عجله لنا الآن.

وإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢] فليس عند هؤلاء عقول حين يقولون ذلك.

فيقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:٥٣] فالله عز وجل لا يخلف الميعاد، والعذاب آت ولكن الله أجل ذلك لأجل مسمى معلوم عنده، وسيأتيهم عذابهم إما في الدنيا بأن يقتلوا أو يموتوا فيذهبوا إلى عذابهم في قبورهم كما عذب فرعون وجنوده، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦].

وكذلك هؤلاء ربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تستعجلوا فالعذاب آتيكم، فقتل منهم أبو جهل وغيره في يوم بدر وألقوا في قليب بدر، والله عز وجل عذبهم، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على حافة البئر يقول لهؤلاء: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) تعذبون في هذا القليب ويتقد عليكم ناراً بما صنعتم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت:٥٣] أي: أجلنا العذاب للوقت الذي رأيناه وأردناه، وأيضاً وعد الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة ولا يعجل لهم في الدنيا عذاباً يستأصل جميعهم.

قال سبحانه: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:٥٣] أي: يقيناً سيأتي هذا العذاب، وسيأتيهم بغتة قال تعالى: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:٥٣].

إذاً: الواحد منهم يظن أنه قادر على شيء وفجأة يأتيه العذاب في الدنيا ثم في الآخرة، فالموت يأتي بغتة، ولا يوجد نذير قبله يقول: إنك ستموت يوم كذا، الساعة كذا، وكم قال الأطباء أن هذا المريض لن يعيش إلا يومين أو ثلاثة ثم يعيش بعدها سنين.

وكم يقولون عن إنسان: إنه بصحة وعافية وقوة ولا خطر عليه، فيموت في تلك اللحظة، والله على كل شيء قدير.

وهل ظن أبو جهل وهو خارج من مكة يحفز الناس على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم فقال له بعضهم: ارجع بالناس، فلن نكسب شيئاً من القتال، إنما نقتل أقوامنا، فإذا بـ أبي جهل يقول له: أنت جبان، ويحفزه على ذلك فكان الاثنان قتيلين في يوم بدر.

وخرج أبو جهل في يوم بدر وهو يهيج الناس على القتال ويلبس عدة الحرب، وكان من أقوى الناس، وحوله مثل الحرجة ممن يدافعون عنه، والحرجة: شجر الغابة الملتف، وكأن أبا جهل لا يخلص إليه، فكانوا يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه أحد، وإذا بمقتله يكون على يد غلامين شابين صغيرين من الأنصار كلاهما يسأل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا عماه! أين أبو جهل؟ فيتعجب عبد الرحمن بن عوف، وكان في القتال يقول: ووددت لو أني بين رجلين أقوى منهما، يعني: أن الذين بجواره ولدان من الأنصار ما زالا في سن بداية الشباب، فلما قالا له: أين أبو جهل؟ قال: أين أنتم من أبي جهل؟ ومن أين تصلون إلى أبي جهل؟ فيقسم كل منهما ويخبر أنه آلى على نفسه لئن رأى أبا جهل لا يفارق سواده سواده حتى يكون أحدهما قتيلاً؛ لأنه كان يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون مقتله على يد الاثنين معاذ ومعوذ ابني عفراء رضي الله تعالى عنهما، فلما أبصراه استلماه بسيفيهما، ووصلا إليه وهو مثل الحرجة فوقع صريعاً على الأرض.

ويأتي إليه ابن مسعود رضي الله عنه ويركب على صدره ويقطع رقبته ويقول له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم.

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً قصيراً، إذا جلس عمر رضي الله عنه يكون طوله كطول ابن مسعود وهو واقف، فلما أراد ابن مسعود أن يقطع رقبة أبي جهل لعنة الله عليه قال له: يا رويعي الغنم، تصغير يقصد به التحقير، يعني: أنت تقتلني أنا! لقد ارتقيت مرتقى صعباً، تطلع أنت فوق صدري! هل كان يتوقع ذلك أبو جهل لعنة الله عليه وعلى أمثاله؟! فلما يئس قال: هل أبعد من رجل قتله قومه؟! كفر وتكذيب إلى أن يموت لعنة الله عليه، ومعنى كلامه أن أبعد رجل هو من قتله قومه، فمثلما غيري قتله قومه أنتم أيضاً قتلتموني.

قال الله عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:٥٤] فليس هناك مهرب إنما هم كداخل السور لا يستطيع أن يهرب منها، فجهنم تحيط بهم محدقة بهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>