للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً)

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} [العنكبوت:٦٧]، أي: هؤلاء الكفار، ألم يروا آية من آيات الله عز وجل فيهم وفي بلدتهم مكة تدلهم على ربهم وخالقهم سبحانه، مقدر الأقدار الذي يكفرون به ويشركون به، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت:٦٧]، لماذا جعل الله مكة وحدها آمنة وكل الناس من حولهم يتخطفون؟ من الذي جعل هذا البلد بلداً آمناً؟ يأتي الناس إليه من كل مكان، ويحجون بيت الله سبحانه وتعالى، ويكونون آمنين وهم فيه، وفي رحلاتهم من بلادهم إلى الحرم لا يكونون آمنين، فإذا جاءوا إلى الحرم أمنوا، وقد يلقى الرجل قاتل أبيه وقاتل أخيه في الحرم ولا يتعرض له بشيء، كل هذا في الجاهلية، وهذا تحريم قدري من الله سبحانه وتعالى.

أليست هذه آية من الآيات التي تدلهم على نعم الله عز وجل عليهم، فأنتم في بلادكم في أمان، ومن يأتي إلى بلادكم يستشعر فيها الأمان، فإذا خرجوا من عندكم يتخطف الناس من حول هذا البلد العظيم، أو من حول سكان هذا البلد.

والخطف: هو الأخذ بسرعة، فالناس من حولهم يتخطفون بالقتل والغصب وغير ذلك، ويؤخذون، وكانت عادة العرب الإغارة، أي: أن يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ولا يهتمون لذلك، فهم معتادون على هذا الشيء.

فإذا جاءت الأشهر الحرم كفوا وسكتوا وانتظروا حتى تمر الأشهر الحرم، ولعلهم يتعجلون خروج هذه الأشهر الحرم فيغيرون أسماءها، فإذا جاء عليهم شهر محرم فلا بد أن يحرموا، وشهر محرم بعد ذي القعدة وذي الحجة، فيقولون: نلغي المحرم في هذه السنة، ونجعل اسمه صفراً، فيسمونه صفراً؛ ليغير بعضهم على بعض، ومن أجل أن يقاتل بعضهم بعضاً، ويأخذوا أموال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض فيه، أما في مكة فلا أحد يجرؤ أن يفعل ذلك، وقد رأوا آيات الله سبحانه، ومن أعظم ما رأوه حين جاء أبرهة من اليمن إلى مكة ليهدم الكعبة، ومعه الفيلة يريد بها هدم الكعبة بيت الله سبحانه وتعالى، فأرسل الله عليه وعلى جيشه طيراً أبابيل، قال تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:٤ - ٥].

وقد رأى أهل مكة ذلك؛ فخاف الناس كلهم من هذا المكان، وعرفوا أنه المكان الآمن، فهو بيت الله عز وجل، وأن له رباً يحميه، هذه الكلمة العظيمة قالها عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبرهة، فقد قال له: جئت أسأل عن إبلي، أما البيت فله رب يحميه، أي: لن تستطيع أن تعمل شيئاً في هدم البيت، ومن الممكن أن تفعل في إبلي ما تشاء؛ ومن أجل هذا جئت أطلب إبلي التي أخذتها، أما البيت فلن تقدر عليه.

وأخذ إبله، وخرج أهل مكة ينظرون كيف سيدافع الله عز وجل عن حرمه وعن بيته، فزلزل الله أبرهة وجيشه وهزمهم سبحانه، بأن أرسل عليهم طيوراً ترميهم بحجارة من نار، فجعلهم كعصف مأكول.

قال الله سبحانه: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:٦٧]، أي: بالشيطان، وبالكفر بالله سبحانه، وبما يشركونه بالله عز وجل من آلهة وأنداد، قال تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:٦٧]، أي: يكفرون بنعم الله عز وجل، والقرآن نعمة من الله عز وجل، والتوحيد، أن يعلمهم التوحيد ليكونوا من أهل الجنة نعمة من الله سبحانه؛ ولذلك أهل الجنة يقولون عن هذا الدين العظيم حين يدخلون الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣].

فمنة من الله وكرم منه سبحانه أن يهدي العباد إلى جنته، قال سبحانه: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:٦٧]، هكذا ذكرت هنا، وفي النحل وفي غيرها قال الله تعالى: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:٧٢]، أي: أيكفرون بنعمة الله وينسون توحيده وشكره سبحانه؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>