للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها)]

قال سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:٣٦] أي: إذا أذقنا الناس رحمة منه سبحانه، ورحمة الله عظيمة واسعة، فرحمته في الدنيا: ما يراه الإنسان من صحة وعافية، ومن مال وسعة في الرزق، ومن مطر ينزل عليه من السماء، فرحمات الله عز وجل عظيمة على عباده.

فإذا أذاق الإنسان رحمة من خصب وسعة، من عافية ومطر، من أمن ودعة، إذا أعطاهم شيئاً من ذلك فرحوا به.

قال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:٣٦]، والسيئة هنا: بمعنى المصيبة والبلية التي هي من بليات الدهر والزمان، فالله عز وجل يبتليهم بها، قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم:٣٦]، فما أصابك من مصيبة فبما كسبت يداك، وما ابتلاك الله سبحانه وتعالى به فهو ناتج بما جرت به يدك من آثام ومعاص، فيذيق الله عز وجل العباد بسببها عقوبتهم في الدنيا.

قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم:٣٦]، أي: ما يسوءهم بسبب ما اكتسبوه من المعاصي، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:٣٦]، والقنوط: بالطاء اليأس، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} بفتح النون، وقراءة أبي عمرو ويعقوب والكسائي: {إِذَا هُمْ يَقْنِطُونَ} بكسرها، وليس فيها (يقنُطون) بالضم، فهي ليست قراءة ولا لغة فيها.

قال: ((إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي: ييئسون إذا أصابتهم المصيبة، وهذه عادة الإنسان إذا مات له قريب، أو حبيب يحبه، فإنه يقنط وييئس ويتضايق، ولا يطيق أحداً، وبل يظل على ذلك عمراً طويلاً في يأسه وفي ضيقه بسبب هذا الأمر الذي نزل به، فجاء دين رب العالمين ليجعل لنا حدوداً لا يجوز تجاوزها، فإن حزنت فلا تتجاوز الحدود فتيئس من رحمة الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧]، فلا تقنط ولا تيئس ولا تعترض على أمر الله تعالى وقدره.

وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، وهذا لما مات ابنه إبراهيم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يحزن وتدمع عيناه ولا يمنعه ذلك من أن ينصح الناس، فالناس يقولون: خسفت الشمس لموت إبراهيم، فإذا به مع شدة حزنه يقول للناس: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، فهو يعلمهم مع أنه صلوات الله وسلامه عليه حزين وفي قلبه الرحمة على ابنه، لكنه لا يعترض على أمر الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر أن لـ إبراهيم مرضعة عند الله عز وجل تكمل رضاعه، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن لابنه عند الله ما هو خير له مما في هذه الدنيا، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد ابنه بشهور عليه الصلاة والسلام.

فالإنسان قد يأخذه الحزن الشديد فيجب عليه ألا ييئس، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم مات ابنه وحزن عليه صلى الله عليه وسلم ثم مات بعده بشهور، فإذا مات لك قريب أو إنسان حبيب فلا تحزن عليه جداً؛ لأنك لا تدري لعلك تلحقه بعد ذلك، فإذا اعترضت على أمر الله سبحانه ثم مت على هذا الاعتراض فإنها مصيبة في الدنيا ومصيبة في الآخرة، ولكن المؤمن يصبر على أمر الله سبحانه، ويرضى بقضاء الله وقدره، فإذا بكى بكى بصوت هادئ، فلا يصيح ولا يعترض على قضاء الله فليس له ذلك، (فالنائحة من النساء تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هذه النائحة من النساء فما بالك بالرجال الذين يفعلون كالنساء؟! فالغرض أنك لا تعترض على الله سبحانه، بل للإنسان الإحداد على الميت ثلاثة أيام فقط وليس له أكثر من ذلك، بل إذا كان أقل من ذلك فهو أفضل؛ لكي لا يظهر الحزن والجزع؛ لأن هذا شيء في القلب، وإذا دمعت العين فلا شيء في ذلك، أما المرأة فإنها تحد على الزوج أربعة أشهر وعشراً، فيجب على الإنسان ألا يتجاوز الحد المحدود له شرعاً، وألا يزيد في أمر البكاء وتهييج المشاعر بحيث يصل به الحال إلى الاعتراض على الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>