للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون)

قال الله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:٤٤] تصدع أهل الكفر وساقتهم الملائكة إلى النار, فمن كفر فعليه هذا الكفر, فكفره لن يضر به ربه سبحانه, فالله غني عن العباد وعن عبادتهم, فهؤلاء الذين كفروا وبال كفرهم عليهم, (من كفر فعليه كفره) أي: جزاء كفره عليه {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية:٣٣].

{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [الروم:٤٤] المؤمنون الأتقياء أهل العمل الصالح {فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:٤٤] المؤمن يمهد لنفسه, والتمهيد بمعنى التوطيء، ومهد الشيء بمعنى جعله موطأ يمكن أن يقعد عليه وأن يمشي عليه، فقد جعله مذللاً سهلاً, فكأن المؤمن ييسر لنفسه بفعله وبعبادته طريقاً إلى الجنة, وطريق الجنة في هذه الدنيا سهل على من وفقه الله سبحانه وتعالى إليه, وإن كان ظاهره أنه صعب، وفي الحديث: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فطريق الجنة لا بد للإنسان أن يجاهد نفسه عليه, ويجاهد شيطانه, ويجاهد هواه, ويجاهد الكفار, ويجاهد المنافقين, فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر, أشياء كثيرة تكون صعبة على الإنسان, ولكن عندما يستعين بالله سبحانه وتعالى فإن الله يسهلها عليه، فالمؤمن طريقه سهل, فأنت تقوم وتصلي الفجر كل يوم، وقد تعودت على ذلك, وانظر إنساناً آخر ليس متعوداً على ذلك إذا قلت له: قابلني غداً في صلاة الفجر فتأتي وهو لا يأتي, فتسأله فيقول: ضبطت المنبه على الأذان ولم أقم, لكن أنت تفرح عندما تسمع أذان صلاة الفجر, فتتوضأ وتمشي إلى المسجد وأنت تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، فيصير الأمر سهلاً عليه، فيصلي الفجر كما يصلي الظهر والعصر, والأمر عنده سهل يسير, مع أن فيها مشقة ولكن من اعتاد على الخير يسره الله سبحانه وتعالى عليه, ويأتي شهر رمضان وأنت مشتاق لهذا الشهر، وإن كنت تصوم كل اثنين وخميس فيكون صوم شهر رمضان سهلاً جداً, وينتهي رمضان فتحزن على فراقه، وإنسان آخر ليس متعوداً على الصوم قبل رمضان، فيصعب عليه صومه، فإذا جاء شهر رمضان يصوم يوماً أو يومين وبعد ذلك يأخذ السيجارة في فمه ويترك الصيام والعياذ بالله! فالذي ييسر العبادة على العباد هو الله سبحانه وتعالى, وأنت تمهد لنفسك بالطاعة طريق الجنة, فابدأ أنت بالسبب والنتيجة على الله سبحانه وتعالى, فطريق الجنة طويل, ولكن أنت ابدأ فإذا بالله عز وجل يسهله, فالإنسان في الدنيا يجد اليوم الذي فيه طاعة يوماً جميلاً يذوق حلاوته, واليوم الذي فيه معصية يجده يوماً صعباً شديداً يذوق مرارته, والعاصي لا تهمه طاعة ولا معصية فلا فرق عنده، ولكن المؤمن يطيع الله فيجد حلاوة الطاعة وحلاوة الإيمان في قلبه.

قال الله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:٤٤] أي: كل من علم صالحاً، فالجميع قد مهدوا لأنفسهم, (يمهدون): أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشاً ومسكناً وقراراً في الجنة بالعمل الصالح, ومنه مهد الصبي, وضعه في المهد, فتعمل له سريراً وحده, وتعمل له فراشاً ليناً لهذا الصبي الذي ستضعه فيه, وكذلك أنت تمهد لنفسك طريق الجنة بطاعتك ربك سبحانه وتعالى, فالتمهيد بمعنى تسوية الأمر, وإصلاح الأمر, ومن التمهيد التمكن، كأنك تمكن لنفسك مكاناً وموضعاً في جنة رب العالمين سبحانه, وكذلك قالوا: يمهدون لأنفسهم في قبورهم، وسواء مهد لنفسه في قبره أو مهد لنفسه يوم القيامة, فأول منازل الآخرة القبر, فإذا كان له خير في القبر فيوم القيامة يجد خيراً عظيماً من رب العالمين سبحانه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>