للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف)]

ذكر الله مننه على خلقه ونعمه عليهم، وبين مدى حاجتهم إليه فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:٥٤].

قوله: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) يدل لفظ الجلالة والفعل الذي يليه على توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ويؤكد أن الله الإله المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنه هو وحده، إذ الخلق مقتضى أنه رب سبحانه وتعالى، ولكونه رباً فهو وحده الذي يخلق، وهو وحده الذي يرزق، وهو وحده الذي ينفع ويضر، ويعطي ويمنع سبحانه وتعالى.

وفي الآية إشارة إلى توحيد الرب سبحانه في العبادة، إذ إنه ما دام أن الخالق واحد لا شريك له، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد.

كما أن قوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤] يبين المنحنى الذي يعيش فيه الإنسان، فهو في هذا المنحنى بدأ من الصفر، ثم أخذ يكبر شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى أوج القوة والكمال، ثم بعد ذلك ينحني إلى الأسفل إلى أن يصل إلى الصفر مرة أخرى ويموت الإنسان! فالله خلق الإنسان من ضعف، ثم أوصله إلى القوة، ثم عاد به إلى الضعف مرة أخرى، ولذلك لا ينبغي أن يغتر الإنسان بما أعطاه سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، بل لابد أن يستعين بما أعطاه الله سبحانه على طاعته، وما ينفعه في الدنيا وفي الآخرة.

أما الإنسان الذي يغتر بما أعطاه الله من قوة، فهو جاهل مغرور لم ينظر إلى غيره، كيف كان في يوم من الأيام صغيراً، ثم صار شاباً، ثم صار شيخاً، وتتابعت مراحل عمر الإنسان لتؤذن برحيله؛ لذا لابد أن يدرك أن الذي فعل بغيره ما فعل الذي يفعل بك ما يفعل بالغير، وقد قالوا: السعيد من وعظ بغيره.

وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [الروم:٥٤] قراءتان فقراءة الدوري عن أبي عمرو وخلف بالإدغام: (الله الذي خلقكُّم).

وقوله: {مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:٥٤] الضعف الأول هي المرحلة التي كان عليها الإنسان في بطن أمه من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم صار حملاً، وتتبعها مرحلة الطفولة التي تبدأ من نزول الإنسان من بطن أمه صبياً صغيراً إلى أن يكبر ويشب.

قوله سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:٥٤] أي: بعد مرحلتي الجنين والطفولة تأتي مرحلة الشباب والفتوة والاكتمال.

ثم قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤] والضعف الأخير بسبب الشيخوخة والهرم كما بينت الآية.

وتنقل الإنسان بين هذه المراحل بدون اختياره يدل أن هناك قدرة مدبرة ذات مشيئة وإرادة، قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:٥٤] سبحانه وتعالى، كما أن ضعف الإنسان ملازم له لا ينفك عنه، فإن كان ضعيفاً فالذي يرزقه هو الله سبحانه وتعالى، وإن كان قوياً فالذي يرزقه هو الله سبحانه وتعالى، ولذا ينبغي على الإنسان أن يكون دائماً وأبداً متوكلاً على ربه سبحانه، وليثق بالرب الذي أطعمه وهو في بطن أمه، وأطعمه وهو صبي صغير، فهو الذي يعطيه حتى يتوفاه سبحانه وتعالى.

وقرئت الآية على هذا النحو: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضُعْفَاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) وهذه قراءة عاصم، وقراءة عاصم في هذا الموطن بخلاف قراءة حفص، وإن كانت القراءة بالضم هي اختيار حفص عن عاصم، وذكر عن حفص أنه ما خالف عاصماً في شيء إلا في هذه الكلمة لحديث عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكان الأشهر من قراءة حفص عن عاصم: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفَاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)، كما أنها أيضاً قراءة حمزة، وسبب اختيار حفص لهذه القراءة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عطية العوفي قال: قرأت على عبد الله بن عمر: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفاً وشيبة) ثم قال له: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتها عليّ فأخذ عليّ كما أخذت عليه.

فـ عبد الله بن عمر قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم: (الله الذي خلقكم من ضَعْف) فأقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضُعْفٍ) وإن كانت هذه قراءة صحيحة وهذه قراءة صحيحة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعض أصحابه بقراءة والبعض الآخر بقراءة، والكل كلام رب العالمين سبحانه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف)، فكلا القراءتين جائز، ولكن الغرض بيان: سبب اختيار حفص لهذه القراءة على القراءة الأخرى؟ فعلمنا أن اختيارها كان بسبب الحديث المتقدم، والحديث حسنه الترمذي وأيضاً حسنه الألباني.

قال العلماء: الضعف يكون بالضم: الضُعف، ويكون بالفتح: الضَعف، على الخلاف الذي بين القراءتين، فالضعف بالفتح يكون في الرأي، وبالضم يكون في الجسد، وهذا صحيح، وإن كان كلٌ منهما يعطي المعنى الآخر، فالمعنى على القراءة بالفتح: كنتم في ضَعف، أي: في العقول وفي الآراء، إذ المعلوم أن الصبي الصغير لا عقل عنده، وإن كان فيه عقل يميز ولكنه لا يكلف بهذا العقل قطعاً؛ لأنه غير سوي وغير مكتمل، وهو ما نعني بالضعف، وعلى ذلك ستخُصَ القوة في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:٥٤] بالقوة في الرأي، والمعنى: صار بالغاً عاقلاً مكلفاً يفهم الأشياء، ذا خبرة في الحياة.

ثم بعد ذلك يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، أي: يصل إلى مرحلة الهرم والشيخوخة ويبدأ عقل الإنسان بالضعف، فما كان يحفظه ينساه، والأشياء التي كان يتذكرها إذا به ينسى الكثير منها، وكان واسعاً في مداركه وتفكيره فإذا به ضيق الأفق، وهو معنى الضعف الثاني على القراءة بالفتح ضعف.

وعندما يتأمل المرء في هذه المراحل العجيبة يدرك أنه ينبغي عليه أن يحاول قدر المستطاع أن يستفيد من قوته وشبابه، عملاً بوصية ابن عمر حيث يقول: خذ من قوتك لضعفك، وخذ من صحتك لسقمك، وخذ من حياتك لموتك، ولذا ينبغي على الإنسان أن يستغل فرصة قوته وصحته في عبادة الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت في صحة بحيث تقدر على الصلاة قائماً، فأكثر من الصلاة قبل أن يأتي عليك الضعف والمرض فتصلي وأنت قاعد.

ومن الفروق بين مرحلتي الضعفين اللذين ذكرهما الله سبحانه، أن الإنسان إذا كان في الضعف الأول وهو صغير يحبه أبوه وتحبه أمه، أما في الضعف الثاني الذي يأتي وهو كبير يضيق به من حوله، لذلك ينبغي على الإنسان أن يكون ودوداً إلفاً مألوفاً، فإذا وصل إلى هذه المرحلة؛ إذا بالناس كلهم يحبونه، ففرق بين إنسان في شبابه مغرور، فهو يغتر على الناس، ويتقوى عليهم بقوته، ويستعرض عليهم بعضلاته، فإذا كبر وشاخ ضاق به الناس وتمنوا موته، وآخر كان ودوداً للناس، خيراً مع الناس، إلفاً مألوفاً؛ فإنه إذا كبر في السن لقي كل من حوله يحبه، والكل يحاولون أن يخدموه، وكذلك الآباء مع أبنائهم فالأب الذي مع أولاده يخدمهم، ويعطف عليهم، ويرحمهم، وملئ بالحنان والشفقة، ويؤدبهم ويعلمهم دين الله سبحانه؛ يطيعه أبناءه في الشيخوخة أتم الطاعة، ويبذلون قصارى جهدهم في خدمته.

أما الأب القاسي على أولاده، الذي لا يحبهم، ولا ينفق عليهم، ويؤذيهم ويؤذي أمهم، فإنه إذا وصل إلى الشيخوخة تجدهم كلهم تاركين له، لا أحد يسمع له، وقد يتمنون موته، فالذي قدمه في يوم من الأيام جناه بعد سنين من عمره، أو بعد ما وصل إلى أرذل العمر؛ لذلك قدم لنفسك، ولا تنظر إلى اليوم وانظر إلى الغد ما الذي يكون فيه؟ فالله سبحانه يخلق ما يشاء وهو العليم بخلقه سبحانه، القدير على تغيير أحوالهم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:٥٤].

<<  <  ج:
ص:  >  >>