للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في آخر سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:٥٥ - ٦٠].

يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أمر الساعة وقيامها، وما الذي يحدث في هذا اليوم العظيم الذي ذكره الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه، ونزل هذا القرآن العظيم ليحذر الناس من هذا اليوم العظيم، فهو يوم يقومون بين يدي رب العالمين سبحانه ليسألهم: هل عبدوه -وقد أمرهم بعبادته- أو لم يعبدوه؟ وليسألهم: ماذا كنتم تعملون في هذه الحياة الدنيا؟ وحين جاءتكم الآيات هل أخذتموها مأخذ الجد فعملتم بها أم أنكم اتخذتم هذا القرآن وراءكم ظهرياً، وتركتموه وسخرتم بأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم:٥٥] في السياق تفخيم وتهويل لهذا اليوم العظيم، بما يجعل السامع يتسائل: ما الذي يكون يوم تقوم الساعة؟ فيجد الإجابة أمامه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:٥٥] حين تأتي على كل إنسان ساعته، وتأتي القيامة الكبرى، فيموت من على هذه الأرض قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:٢٦] ثم يأمر الله سبحانه بعد ذلك بالنفخ في الصور؛ فيبعثون من القبور ويقفون بين يدي رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وحينها ينظر الناس في أعمالهم، ويتساءلون عن لبثهم كم كانت مدته؟ قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:١١٢] واختلف في السائل، فقيل: يسألهم ربهم سبحانه، وقيل: تسألهم الملائكة، وقيل: يسأل بعضهم بعضاً: كم لبثنا في هذه الحياة الدنيا؟ والأولى حمل الآية على الجميع، وهم حين يسألون: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:١١٢] يجيبون كما ذكر الله عنهم: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٣] والعادون: من كانوا يحسبون ويعدون أيامهم ولياليهم، بل ويعدون حتى أنفاسهم، وفي الآية إشارة إلى جهلهم بمدة لبثهم.

وفي قوله سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:٥٥] يخبر عن المجرمين إذا قاموا من القبور أنهم يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة، وهذا اللبث إما أن يكون المقصود به في الدنيا كما سئلوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٣] أي: على ظهر الدنيا أو في باطنها، فإذا كان يوم القيامة إذا بهم ينظرون إليه أنه لا شيء، وأن لبثهم فوق الأرض -وإن عاش أحدهم ستين سنة أو مائة سنة أو حتى ألف سنة- لا شيء إذا قورن بيوم القيامة، فهو يوم واحد قدره خمسون ألف سنة، فلذلك قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٣].

ثم يبين الله مدى استحقارهم لتلك الفترة التي لبثوها في الدنيا فيقول سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:٥٥] إذاً يحلف المجرمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا غير ساعة، وهذا في توهمهم وظنهم، وإن كان الأمر أنهم عمروا سنيناً من سنين الدنيا، ولكن لما نظروا إلى طول الموقف قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:١١٣]، وعلى أن اللبث الذي أخبروا عنه في القبور يكون المعنى: أنهم حين يموتون، ويكونون في القبور، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، ثم يقومون منها يقيسون ما كانوا فيه على ما يكون يوم القيامة، فيظنون أن ما فات كان أهون، وأنه كان شيئاً يسيراً، ويزعمون أنهم ما لبثوا في القبور إلا يوماً أو بعض يوم، أو يقولون: ما لبثنا غير ساعة، كما في هذه الآية، وهذا الظن الذي يقسم عليه المجرمون باطل في الحقيقة.

والمجرمون هم الذين وقعوا في الجرم، أي: في المعاصي والفواحش الكبرى، ونعتوا بذلك؛ لأنهم عصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، وخرجوا عن طاعته وعن دينه، وفي الآية إشارة إلى أنهم يوم القيامة يكونون في حالة ذعر شديد، حتى يقسم أحدهم على الشيء وهو خلاف ما يقسم عليه، قال تعالى: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:٥٥].

قوله: ((كَذَلِكَ كَانُوا)) الإشارة هنا إلى ما هم فيه من انصراف عن الحق وبعد عن الصواب، والمعنى: كذلك كانوا في الدنيا، فهم كانوا في الدنيا وفي الآخرة على هذا الحال من البعد عن الحق.

ومن البعد عن الصواب.

وقوله: ((يُؤْفَكُونَ)) يؤفك الإنسان بمعنى: يصرف عن توحيد الله، ويصرف عن الحق، وهو حين ينصرف عن الحق يقع في الكذب، وحديث الإفك أي: حديث الكذب، وإفكهم في الدنيا أي: أنهم كانوا يصرفون عن الخير، ويصرفون عن الصدق، ويبتعدون عن تصديق رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهم كما كانوا في الدنيا منصرفين عن الحق فكذلك يوم القيامة لا ينطقون بشيء ينفعهم، ولا يتكلمون بشيء فيه صواب، فكما صرفوا في الدنيا صرفوا يوم القيامة.

فقوله سبحانه: ((كَذَلِكَ)) أي: كذلك الذي تسمع في هذه الآية من أنهم يقولون: لبثنا ساعة، ويقسمون على ذلك، وكذبوا وما صدقوا كما كذبوا الآن وأقسموا وقالوا: والله ما لبثنا في الدنيا إلا ساعة واحدة، فكهذا الكذب كانوا يصرفون في الدنيا عن توحيد الله وعن طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيكذبون في الدنيا على الله، وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فكذبوا في الدنيا وكذبوا في الآخرة.

بل قام المنافقون بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى يحلفون قال تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:١٨]، فهم لجرأتهم يكذبون على الله سبحانه يوم القيامة، والله يملي لهم، ويتركهم ليكذبوا، وذلك ليذوقوا أشد العذاب وأشد الويل يوم القيامة، فيحلفون لله سبحانه كما يحلفون في الدنيا: والله ما عصينا، والله ما أشركنا، والله ما عملنا كذا، قال تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:١٨]، وقد تركهم الله فحلفوا وتركهم فكذبوا وأخرسهم فنطقت عليهم جوارحهم تكذبهم فبهتوا وخذلوا، فكانوا إلى النار بل إلى الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله.

وككذب المنافقين وحلفهم يحلف هؤلاء، قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣] أي: أنهم عندما يقفون بين يدي الله عز وجل ويسألهم: أأشركتم بي؟ فيقولون: والله ما كنا مشركين، ويحلفون لله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة ويكذبون ليكون ذلك زيادة في عذابهم يوم القيامة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>