للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صورة من صور الجدال بغير علم]

إن أوضح مثال على الجدال بغير علم تلك المناقشة التي دارت بين الكفار وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء في حديث رواه أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش للنبي صلوات الله وسلامه عليه يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل، وهذا هو العلم الذي يزعمونه، فهو إما سحر أو شعر أو كهانة، فهم يريدون أحداً منهم عنده علم بهذه الأشياء ويجادل النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعادى ديننا، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه، فبحثوا عن أعلم الناس بالشعر والسحر والكهانة، فوجدوا واحداً منهم، وهو عتبة بن ربيعة، رجل من كبار المشركين، وكنيته أبا الوليد، فقالوا: أنت يا أبا الوليد أعلم الناس بهذه الأشياء، فاذهب إلى محمد فانظر ماذا يقول، فذهب عتبة بن ربيعة -وهو أحد قتلى بدر هو وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، كلهم قتلوا في يوم بدر كفاراً- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والغرض هو بيان كيف يناقش هذا الرجل- فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ وهذه من المناقشات الغبية التي ليس فيها فائدة، فكما أنهم يقدسون آباءهم ويتبعونهم بحق أو باطل من غير تفكير، كذلك يريد أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على هذا الكلام الفارغ؛ لأنه لا يستحق أن يرد، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: يا محمد! أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي نعبد.

وهو يريد أن يوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة معينة، فالعادة أن الإنسان يستحي إذا قيل له: أنت أحسن أو أبوك؟ فيقول: بل أبي أحسن، فيقال له: إذا كان أبوك أحسن فإنه عبد الأصنام، فلماذا لا تعبدها؟ ولذلك فقد وفق الله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجب على هذا الجاهل.

فإذا بالرجل يفترض له الافتراض الجدلي الباطل، ويريد أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من أمرين: أما أن يكون هو خيراً أو أبوه، وإذا كان أبوه وجده خيراً منه فلماذا لا يعبد الآلهة التي كانوا يعبدونها؟ ولماذا يعيبها؟ وإذا كان هو خيراً منهم فليقل ذلك.

وكأن هذا الأحمق الجاهل الغبي لم يسمع بهذا القرآن، ولم يسمع شيئاً مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن، وهم يعرضون عنه ولا يريدون أن يسمعوه، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم، تكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً وكاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى.

كل هذا يقوله للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنت السبب في هذا كله، فلم يبق إلا أن نقتل بعضنا بعضاً بسببك أنت، يقول هذا الكلام من غير تعقل ولا تفكير، فهو وقومه لا يفهمون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد طمس الله على قلوبهم وعقولهم، وعلى بصائرهم وأبصارهم.

ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان إنما بك الحاجة -أي: إذا كنت تفعل ذلك لأنك فقير محتاج- جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة -أي: تريد أن تتزوج- اخترنا لك من نسائنا -أي: نساء قريش- فنزوجك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرغت)؟ أي: هل أكملت كلامك؟ -فقال: نعم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:١ - ٥]، حتى بلغ قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣]، فقال عتبة: حسبك حسبك)، أي: يكفي، فهو لا يريد أن يسمع أكثر ذلك.

ثم رجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ أي: ما الذي عملته مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، أي: قلت له كل ما تريدونه قوله له، قالوا له: فهل أجابك؟ قال: نعم، ثم قال: والذي نصبها بنية -يحلف برب الكعبة- ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه قال: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فقالوا له متعجبين: ويلك! رجل يكلمك بالعربية فلا تدري ماذا يقول! مع أنهم بحثوا عن أعلم رجل بالشعر والسحر والكهانة ليذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ما ذكر من الصاعقة.

هذا هو حالهم وتفكيرهم وجدلهم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهم لا يعقلون شيئاً، وصدق الله العظيم سبحانه حيث قال فيهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:٧]، فهذا حالهم في الدنيا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:٣]، فليس عنده علم عقلي، ولا هو على هداية، ولا على كتاب من عند رب العالمين سبحانه حتى يعرف الحق من الباطل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>