للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة لقمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٤٢ - ٣٤] في هاتين الآيتين يأمر الله عز وجل عباده بتقواه، وأن يخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، وهذا متحقق يوم القيامة، وهو يوم عظيم ذكره الله عز وجل في القرآن وسماه بأسماء متعددة فهو يوم القيامة، وهو الطامة الكبرى، وهو الصاخة، وهو الحاقة، فهو يوم عظيم تدل أسماؤه على ما فيه، وهو يوم تقوم فيه الساعة، وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى على جميع خلقه فلا يعلمها إلا هو، فإذا أمر ينفخ الصور مات كل من على هذه الدنيا، ثم يأمر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك بإحياء الخلق فيرجعون مرة أخرى: ((يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار)).

من أسماء يوم القيامة: الطامة، والطامة هي المصيبة العظيمة، وسميت طامة لأنها تطم وتعم، والصاخة؛ لأنها تصخ الآذان بهول الصحية التي تكون يوم القيامة، والحاقة؛ لأن الله عز وجل يحق فيه الحق، ويظهر للإنسان فيه ما كان يكتمه في الدنيا، كما ذكر الله عز وجل أن يوم القيامة فيه شر عظيم، قال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧]، أي: منتشراً عظيم الانتشار.

وفي هذه الآية يحذر الله عز وجل العباد منه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا} [لقمان:٣٣] وقد ذكر طول هذا اليوم في القرآن، قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] فمهما عمر الإنسان في الدنيا واستشعر بطول العمر فيها لأنه عاش ثمانين سنة، أو عاش مائة سنة، أو عاش ألف سنة، فسيأتي يوم القيامة ليجد هذا اليوم يوماً عظيماً طويلاً عبوساً قمطريراً، حتى يقول بعض الناس لربهم سبحانه يوم القيامة من شدة ما يعانونه في هذا اليوم: ربنا اصرفنا ولو إلى النار، يظنون أن النار أهون من هذا اليوم؛ لما يرونه في هذا اليوم من أصناف العذاب.

فيرون عذاب الإنسان الذي منع زكاة ماله، إذا كان ماله من غنم، أو من بقر، أو من إبل، فإنه يفرش لهذه الأشياء في قاع قرقر أي: منبسط واسع فسيح كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تأتي عليه إبله فتطؤه بأخفافها، وتعظه بأنيابها، وتظل تدور عليه في هذا اليوم الطويل حتى يرى مصيره إما إلى النار وإما إلى الجنة، ويؤتى بالإنسان الذي كان يكنز الذهب والفضة في الدنيا ولا يخرج زكاتها فتصفح له صفائح الذهب والفضة من نار يكوى بها وجهه وظهره وجنبه في هذا اليوم الطويل العبوس القمطرير، حتى يرى مصيره إما إلى النار وإما إلى الجنة.

لقد حذرنا الله عز وجل منه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:٣٣] أي: لن يأتي رجل يوم القيامة ليقول: أنا أفدي ابني، بل يقول: نفسي نفسي {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شيئاً} [لقمان:٣٣] وكذا لن يقول الابن: أنا أحمل عن أبي، أو أدخل مكانه النار، بل كل إنسان يقول: نفسي نفسي، ونكر (شيئاً) في الآية، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: أي شيء ولو دق ولو قل، ثم أكد وقوع هذا اليوم فقال: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) فقد وعد بأن يكون حساب وجزاء، فكان وعد من الله حق، ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) أي: لا يغرنكم الأمل، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر أصحابه وأمر المؤمنين أن يزوروا المقابر، فإنها تذكر الآخرة؛ فإن الإنسان عندما يذهب إلى القبور وينظر إليها وهي حفرة في الأرض صغيرة عميقة يدفن فيها الميت ويغطى، ولعله يتذكر كم كان الإنسان يلعب في هذه الدنيا، وكم كان يمرح ويجري ويضحك بملء فيه وهو لا يدري ما الذي يختبئ له في قبره، ولا يدري ما الذي يدخره له ربه سبحانه من حساب على أعماله التي عملها في الدنيا، وهو توجيه للمغرور: أن انظر إلى القبور، وانظر إلى الحفرة التي ستنزل فيها وهي بضيقها حيث لا تتجاوز نصف متر عرضاً في مترين ونصف طولاً، مكان لضيقه لو نزله الإنسان فيه حياً فلن يستطيع الحركة.

أيها المغرور! تذكر كم من الناس دفنوا فيها؟ لو عدو لبلغوا الملايين، كلهم نزلوا في هذه القبور وأكلتهم الأرض وفنوا، وانتهى أمرهم، ثم يظلون فيها حتى يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة، فالإنسان في غفلة عن الموت، في غفلة عن القبر، في غفلة عن هذا المكان الذي يسأل فيه: من ربك؟ ما دينك؟ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإذا كان الإنسان في لهو ولعب وغفلة عن القبور، فإنه يأتي في قبره فلا يحير جواباً، فيقول: هاه هاه لا أدري، هاه هاه لا أدري، كما كان يضحك في الدنيا، ويسخر في الدنيا، إلا أنه في الدنيا كان يضحك من قلبه، أما في قبره فإنه يقول: هاه هاه بصوته فقط، بل ببكاء مرير وخوف عظيم.

{وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣] أي: لا يفتننكم الشيطان الذي غركم وخدعكم في الدنيا فاقتتلتم فيها، وسلبتم أموالكم ظلماً وزوراً وعدواناً، لقد مكر بكم الشيطان حتى أرداكم، فلما متم ودفنتم في القبور وجدتم نتيجة هذه الأعمال، أما المؤمن فإنه يجد في قبره من يعينه على أن ينطق؛ لأن الله يثبته سبحانه وتعالى، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى يخبر عن تثبيته لهم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧]، كما أن هذا القبر الضيق الذي لا يكفي أن يتكئ الإنسان فيه، يأمر الله أن يتسع له القبر مد بصره، وينور له في قبره، ويفرح الإنسان بما يرى، ويفتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا منزلك، وحين يفرح العبد يقول: يا رب! أدخلني فيها أدخلني منزلي، فيقال له: نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليها، ثم ما زال أمامك وقت حتى تبعث يوم القيامة.

أما الإنسان الفاجر والكافر الذي لا يدري من ربه وما نبيه وما كتابه، فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، ويصرخ صرخة عظيمة فظيعة في قبره يسمعه كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، فتسمعه الهوام والدواب والحيوان والملائكة، ولا يسمعه الإنس والجن؛ لأنهم لو سمعوا هذا الصوت لصعقوا ولتابوا إلى ربهم وأنابوا، ولكن الله شاء أن يجعل الدنيا دار ابتلاء ودار امتحان، ودار غرور، لينظر أيكم أحسن عملاً، وينظر من يصدق ربه سبحانه ومن يكذب ويعرض عن الله سبحانه وتعالى.

ويحذر الله سبحانه من الدنيا مع أنه زينها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:١٤] فقد زينها الله سبحانه وتعالى فتنة لعباده، وقال: احذروا من هذه التي زيناها لكم، فإنما أريناكم كيف نزينها حتى تعرفوا أن في الدار الآخرة الجنة وهي أجمل من هذه، فاتركوا هذه الدنيا للجنة، فالله سبحانه وتعالى أرى عباده ما يكون في الجنة بشيء مما أراهم في الدنيا؛ حتى يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى.

لقد حذر الله عباده من الشيطان فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:٦] فقد أخبرنا الله سبحانه في كتابه كيف يمكر الشيطان بالعبد، ويسخر منه، وبين موقف الشيطان حين يلجأ الإنسان إليه فيتبرأ الشيطان منه ويقول كما أخبر الله عنه: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:٤٨] فالشيطان ينزع يده من الإنسان بعد أن يرديه في النار ويوقعه في معصية الله سبحانه، فليحذر المرء أن يغره بالله الغرور.

<<  <  ج:
ص:  >  >>