للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اختصاص الله تعالى بعلم موعد أجل الإنسان ومكانه]

ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤] قد يذهب الإنسان إلى مقبرة من المقابر ويشتري تربة ويجهزها تحسباً إذا مات أن يحمل إليها، لكن الله قد قدر شيئاً آخر، كأن يسافر إلى مكان آخر فيموت فيه ويدفن فيه، فالله سبحانه أخفى عن العباد مواقيت موتهم وأمكنتها، وأمرهم بالإيمان به سبحانه، وهو لا يقدر لهم إلا الخير، فاختيار أمر الله سبحانه، والرضا به، والرضا عنه سبحانه وتعالى دليل الإيمان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني والإمام أحمد من حديث أبي هريرة كما جاء من حديث أبي عزة الهدجي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:٣٤] إلى قوله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]).

قد يظل الإنسان عمره كله في بلده الذي ولد فيه، فلا يسافر خارجها مطلقاً، وفجأة يأتي أمر من الأمور، كأن يحتاج لحاجة من الحاجات، أو يظن أن رزقه في المكان الفلاني، ثم يترك بلده ويذهب إلى هذا المكان لقضائه وقدره، فما أن يصل إلى هذا المكان حتى يقبضه ملك الموت، فيموت في هذا المكان الذي لم يكن يخطر بباله أن يذهب إليه يوماً من الأيام، وبذلك تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى، أنه هو الذي قدر الأقدار، وأنه وحده الذي اطلع على الغيب، فهو يعلم كل شيء خفي عن العباد سبحانه وتعالى.

ولعلنا قد ذكرنا قبل ذلك قصة المليونير اللبناني الذي بنى لنفسه مقبرة ضخمة كبيرة، ثم أتى بزملائه من الناس الذين يحبهم وأصدقاء السوء الذين كانوا معه وقال لهم: أنا عندما يقدر أن أموت سأدفن في هذا المكان، وطلبي منكم أن تقيموا لي حفلة في كل سنة، وتحضروا فيها الموسيقى وترقصوا وتلعبوا حولي في هذا المكان لكي تؤنسوني في قبري، فإذا بالله عز وجل يري الناس في هذا الإنسان آية، فيركب هذا الإنسان الطائرة مع غيره من أصدقائه، وبينما تطير الطائرة فوق البحر تتعطل لتغرق في البحر، ويشاء الله أن تطفوا جثث زملائه إلا هو، فمع أنه أراد لنفسه الدفن في مكان وسخر من الموت بهذه الصورة، إلا أن الله عز وجل أهلكه، فأكلته أسماك البحر أو أخذه الله عز وجل حيث شاء سبحانه.

وليحذر المسلم من الاستهزاء أو السخرية بأمور الغيب، فإنه أمر الله عز وجل الذي قدر كل شيء، وقد جاء في حديث رواه البخاري من حديث ابن عمر قال: صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيط الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) وجاء في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.

قال له: صدقت، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر وخيره وشره، قال: صدقت، فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، فأخبرني متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فحين سأله عن وقت قيام الساعة أجابه بما معناه: أنا وأنت في عدم العلم سواء فأنت لا تعلم وأنا كذلك، (قال: فأخبرني عن أمارتها)، أي: ما هي علامات الساعة؟ قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها- وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان).

وقوله: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها)، أي: يكثر بيع الإماء، فتباع الأمة التي لها الولد، ويصير ابنها حراً وهو لا يعرف من أمه، وفي يوم من الأيام إذا به يشتري أمه لتصير أمة عنده وهو لا يدري أنها أمه، وهذا أحد تفاسير هذه الكلمة من هذا الحديث، وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)، أي: الفقراء الذين كانوا لا يجدون ما يأكلون، بل هم من شدة فقرهم يمشون حفاة لا يجدون ما ينتعلون به، وعراة لا يجدون ما يلبسون، يصيرون أغنى الأغنياء ويتطاولون في البنيان، ولم يكن الصحابة يفكرون أن المباني ستبلغ الأدوار ذوات العدد، وأقصى ما كانوا يرونه بيتاً يتكون من طابقين، فكانوا لا يتطاولون في البنيان، ولم يكن في فكرهم هذا الأمر إلا علماً قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه لهم، فإذا الذي كان في يوم من الأيام غنياً وآباؤه أغنياء قد أصبح فقيراً ممن لا يجدون شيئاً، وإذا بالفقراء الذين كانوا لا يجدون شيئاً قد أعطاهم الله عز وجل العطاء الجم، فالله سبحانه يغير ويبدل، ويري العباد من الآيات ما يعتبرون بها.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤] أي: عليم بكل شيء، فعلمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، (خبير) والخبرة: دقة العلم، فالله عز وجل علمه دقيق يعلم ما لا يعلمه أحد، ويرى ما لا يراه أحد سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>