للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نعم الله عز وجل على عبديه داود وسليمان عليهما السلام]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:١٥ - ١٩].

يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات قصة سبأ وما صنع الله عز وجل بهم، فقد كان في قصتهم عبرة عظيمة وآية كبيرة لمن يعتبر.

وقد ساق الله عز وجل لنا قبل ذلك إشارات إلى ملك سليمان وإلى ملك داود عليهما السلام، وكيف أنه أنعم عليهما فعبداه سبحانه تبارك وتعالى حق العبادة، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام نبياً وملكاً، وقد آتاه الله من الملك أشياء عظيمة من فضله سبحانه تبارك وتعالى، فقد سخر له الجبال يسبحن، والطير يجتمعن حوله وفوقه إذا قرأ الزبور، وسهل له الزبور فكان يقرؤه في فترة وجيزة جداً، حتى إنهم ليسرجون له فرسه فيقرأ الزبور كله خلال هذا الوقت، وهذا من نعم الله عز وجل عليه، وسخر له الحديد، كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١٠ - ١١].

وقد أمر الله آل داود أن يعملوا لله شكراً، فقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣].

ومن آل داود عليه الصلاة والسلام سليمان عليه الصلاة والسلام الذي دعا ربه أن يؤتيه ملكاً لا يكون لأحد من بعده، فقال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:٣٥]، فأعطاه الله عز وجل سؤاله، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:٣٦ - ٣٩].

أي: هذا عطاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، يرينا بذلك كيف يعطي العبد في الدنيا ليتخيل ما الذي يفعله في الآخرة سبحانه تبارك وتعالى.

فإذا كان هذا الملك كله جعله لعبد من عباده في الدنيا التي لا تساوي شيئاً، فكيف يعطي في الآخرة سبحانه تبارك وتعالى؟! فقد سخر له في الدنيا من الجن من يغوصون له، ويعملون عملاً دون ذلك.

فكانت الجن تعمل له في البر وفي البحر، كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:٣٧] أي: منهم من يبني له البيوت العالية والقصور والمحاريب، ومنهم من يغوص في البحر ليأتيه بما في البحر من درر، ومن أشياء جعلها الله عز وجل فيها، كالطعام البحري.

وهم يفعلون بأمره ما يشاء.

قال تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:١٢].

وقال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:٣٨] أي: منهم من قرنهم الله عز وجل في الأصفاد؛ تخويفاً لغيرهم، وجعل لسليمان أن يعذب من يشاء منهم.

قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:٣٩] أي: لن نحاسبك على ذلك، ولا شيء عليك لأنك تعمل بأمرنا في ذلك.

فشكر ربه سبحانه، وعمل له سبحانه، وصلى وصام له سبحانه، فكان من أحسن الناس عبادة، وضربت بعبادة داود وببكائه وبأوبته إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى الأمثال.

وقد ذكر لنا ذلك سبحانه لنتعظ ونعتبر بأن الإنسان مهما أوتي ملكاً في الدنيا فإن الملك الحقيقي لله.

قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:١].

<<  <  ج:
ص:  >  >>