للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض)]

يقول الله سبحانه تبارك وتعالى مؤنباً المشركين: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض ِوَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤] أي: من الذي يرزقكم؟ هل يرزقكم أحد إلا الله؟! فالله عز وجل يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، ويقول سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩] سبحانه تبارك وتعالى.

فالله هو الخلاق العظيم، وقد أقر المشركين بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم فيستجيرون ويستغيثون به سبحانه أن يعطيهم، وانظر إلى فرعون كيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى أرسل إليه موسى يدعوه إلى الله سبحانه فأبى وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] وقال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١].

فكان جزاؤه ما قال الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:١٣٣]، فذهبوا إلى موسى يهرعون إليه يقولون: يا موسى! {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:٤٩] أي: ادع لنا ربك مثلما أتى لنا هذا البلاء يكشف عنا هذا البلاء.

فعلموا أن الله سبحانه هو الذي يحكم ولا معقب لحكمه، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:١٣٤]، قال هذا فرعون وقومه لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد أرسل الله عليهم الطوفان لما وجدوا الماء يغرق كل شيء فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك ونحن سنؤمن معك.

فانتهى الطوفان بدعاء موسى وبدأت الأرض تزرع فرجعوا إلى كفرهم ولم يصدقوا فيما وعدوا موسى وكفروا به، فأرسل عليهم الجراد فأكلت زروعهم جميعها، فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك حتى يكشف عنا ما نحن فيه، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:١٣٤].

فذهب عنهم الجراد بدعاء موسى فزرعوا وجمعوا حصادهم وجعلوه في خزائنهم ثم لم يؤمنوا بموسى فأرسل الله عليهم أنواعاً مختلفة من العذاب ولكنهم لم يؤمنوا بما يدعو إليه موسى.

فحل العذاب على فرعون فأغرقه سبحانه تبارك وتعالى بذنبه وظلمه وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

فالله سبحانه يقول لهؤلاء الكفار: من يرزقكم؟ فإذا بهم يقولون: الله، فهم لا يقدرون أن ينكروا ذلك وقد أراهم الله عز وجل آية من الآيات فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، وكان هذا لما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أشد الأذى، فإذا به يستغيث بربه، وإذا بالله عز وجل يمنع عنهم المطر، وإذا بهم لا يجدون نباتاً ولا طعاماً ولا ماءً يشربونه إلا الشيء القليل، فإذا بهم يجأرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكلوا الجلود وأكلوا الميتة، ثم ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم.

فعرفوا أن الله هو الذي يرزق سبحانه، فذكر هؤلاء الذين ينكرون ألوهية الله سبحانه تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الذي يستحق العبادة، والذين يقولون بالشرك كاذبين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥]، قل لهؤلاء: من يرزقكم من السماوات والأرض؟

و

الجواب

هو الله سبحانه الذي يرزق في السماوات والأرض، وينزل الرزق بقضائه وقدره من السماء فيرسل السحاب وينزل المطر وينزل ما يشاء من رحمته من السماء، وينبت لهم من الأرض ما يشاء سبحانه من بساتين وجنات ويخرج لهم الحبوب والثمار.

قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ} [سبأ:٢٤] إن لم يجيبوا وإذا تعنتوا فقل لهم: إن الله هو الذي يفعل ذلك.

فالرب الصانع هو الذي يفعل ذلك سبحانه، وهم لم ينكروا ذلك، ولكن أنكروا أن يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] ولكن الله قال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [سبأ:٢٤] فإذا قالوا: الله هو الذي يرزقنا، فأليس الإله الذي يرزق هو وحده الذي يستحق العبادة؟! وهل أصنامكم هذه ترزقكم أو تعطيكم؟! وكانوا مستيقنين أن أصنامهم لا تعطيهم شيئاً ولا تدفع عنهم ولا عن أنفسها شيئاً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولكنهم كانوا مصرين على طغيانهم.

سورة سبأ مكية كما ذكرنا قبل ذلك، وتخاطب عقول المشركين وتدعوهم بلطف وبرحمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيخاطب عقولهم وكأنه يقول لهم: فكروا من الذي يرزقكم؟ فإذا كان الله هو الذي يرزقكم ألا تعبدونه وحده سبحانه تبارك وتعالى؟! وهلا عبدتموه وتركتم ما تشركون من دونه سبحانه تبارك وتعالى؟! فأجاب عنهم وقال: {قُلِ اللَّهُ} [سبأ:٢٤].

ثم خاطبهم وقال لهم هذه المقالة اللطيفة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤]، وفي هذا تلطف في المخاطبة وفي الدعوة إلى الله سبحانه، أي: أحدنا على هدى وأحدنا على ضلال، ويقيناً نحن على هدى وأنتم على ضلال، ولكن لم يقل لهم ذلك على وجه التنزل في المناظرة مع الخصم.

والإنسان إذا ناظر خصمه وأراد أن يكسبه يقول له: هب أن كلامك كان صواباً، أليس يكون كذا وكذا، وهو يعلم أن كلامه خطأ مائة في المائة.

فيقول سبحانه أمراً نبيه أن يقول لهؤلاء: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤]، على هدى إن عرفنا من الذي خلق السماوات والأرض فعرفنا حقه وقدرنا قدره فعبدناه سبحانه، أو في ضلال مبين إن عرفنا أنه الخالق الرزاق الكريم سبحانه فعبدنا غيره سبحانه تبارك وتعالى.

وإذا كان الإنسان لا يقبل من عبده أن يذهب إلى غيره فكيف يقبل لربه سبحانه أن يذهب هذا الإنسان العبد عن ربه إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ضرب يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه لهم المثل في الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد ذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يحيى بن زكريا أمره الله عز وجل بخمس كلمات أن يأمر بهن بني إسرائيل ويأمرهم أن يعملوا بهن، فكأنه تأخر يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام، فقال له عيسى ابن خالته: إن الله أمرك بخمس تأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تقوم وإما أن أقوم أنا.

فقال: لا بل أقوم أنا، فقام يحيى بن زكريا وقال لهم هذه الأشياء الخمس التي أمره عز وجل أن يقولها، أولها وهو الشاهد- قال لهم في توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ومثل من يشرك بالله كمثل رجل ابتنى داراً واشترى عبداً وقال لعبده: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إلي، أي: اجمع الأجر وضعه في داري، فكان العبد يأخذ المال ويعطيه لغير سيده! فأيكم يحب أن يكون عبده كذلك؟! فلا أحد يقبل ذلك، فكيف يقبلون أن يوجهوا العبادة لغير الله الذي خلقهم ورزقهم وسخر لهم الأرض ليعملوا وقال: اعبدوني وكلوا واشربوا ولا تشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، بل اشكروا لله سبحانه تبارك وتعالى.

فقال لهم هنا: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤] أي: بين واضح وأصلها مبين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>