للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عظيم فضل الله تعالى على عباده بالمسابقة إلى الطاعات والتوبة من السيئات]

إن المسابقة إلى الله عز وجل وإلى طريق الله سبحانه أمر مرغوب فيه شرعاً، فمنهم هؤلاء السابقون بالخيرات بِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، يمن على من يشاء من خلقه، يعطيه الرزق ويمن عليه بالهدى، ويعطيه سماحة النفس ويمنعه شحها، فينفق في سبيل الله، ويخلف الله عز وجل عليه، ويعطيه الأجر من عنده، وكذلك إذا تاب الله عز وجل على عبد من عبيده فالتوبة من الله سبحانه، تاب عليه فألهمه أن يتوب، فتاب العبد فقبل منه.

فانظر إلى فضل الله وكرمه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٨]، هم عصوا الله سبحانه وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمرهم أن يخرجوا معه صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك، فإذا بهؤلاء الثلاثة يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، هؤلاء الثلاثة لما تخلفوا ظنوا أن الأمر واسع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتب من الذي خرج ومن الذي لم يخرج؛ لأن الجيش عدده كبير فتخلف هؤلاء، فعصوا الله سبحانه، وعصوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورجع من الغزو، جاء المنافقون يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم وكل منهم يبدي عذره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل بالظاهر ويدع السرائر لله سبحانه وتعالى.

وجاء هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وكل منهم يقول: (يا رسول الله لم يكن لي عذر، فقال: أما هذا فقد صدق)، إذاً: فهذا الذي صدق، من الذي ألهمه أن يصدق مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى الذي يلهم عباده أن يصدقوا وأن يتوبوا؟ هؤلاء الثلاثة صدقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخرهم، قال عن كعب: (أما هذا فقد صدق)، فأرجأه لأمر الله سبحانه وحكمه.

فهجره النبي صلى الله عليه وسلم، وهجره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً وليلة حتى جاءت التوبة من عند الله سبحانه وتعالى.

فهؤلاء الثلاثة ألهمهم الله التوبة فتابوا، فصدقوا في توبتهم، فإذا به يتوب عليهم سبحانه وتعالى، ويعبر في كتابه بهذا التعبير العظيم الجميل يقول: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:١١٨]، لم يقل: الذين تخلفوا مع أنهم تخلفوا حقيقة، ولكن الله عز وجل لا يعير بالذنب كرماً منه سبحانه وتعالى، ولكن قال: (خلفوا) فالنبي صلى الله عليه وسلم خلفهم وأرجأهم لحكم الله سبحانه، حتى يقضي فيهم الله سبحانه وتعالى، {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:١١٨]، الإنسان مع إخوانه يحبهم ويحبونه ويودهم ويودونه، لكن حين يهجره جميع إخوانه يصعب الأمر على نفسه، وتضيق عليه الدنيا، طالما أنه مؤمن فهو يحب صحبة المؤمنين.

أما الفاسق والكافر فإنه يستبدل بالمؤمنين الفجار والكفار والفسقة، لكن هؤلاء إيمانهم صادق، لذلك جلس كل منهم في بيته ينتظر أمر الله على ما فرطوا في دينهم، وما فرطوا في أمر الله سبحانه، فتابوا توبة نصوحاً، فإذا بالله عز وجل يقبل منهم ذلك؛ لأن في قلوبهم حب الله وحب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وانظر إلى كعب بن مالك وقد ذهب يبحث عن ابن عمه أبي قتادة حتى وجده في حائط له داخل بستان، قال: فتسورت البستان، كأن الرجل من شدة ما هو فيه من غم لم ير باب البستان فتسور البستان من فوق السور، ودخل إليه ثم قال: السلام عليكم فلم يرد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الكلام مع هؤلاء الثلاثة، فقال: ألا تعلم أني أحب الله ورسوله، فلم يرد عليه، فأقسم عليه قال: الله أعلم، ولم يزد على ذلك.

فكأن الدنيا قد أظلمت في عينيه فرجع إلى بيته وهو يتوسل إلى ربه ويتوب إليه سبحانه، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى التوبة على هؤلاء، فتاب عليهم وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم يبشرهم بتوبة الله عز وجل عليهم، فقرأ عليهم قول الله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:١١٨] أي: ليس لهم ملجأ من الله سبحانه يفرون منه إلا إليه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:١١٨]، فالله سبحانه ألهمهم أن يتوبوا إليه، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:١١٨] أي: ليظهروا توبتهم إلى الله عز وجل فيقبل منهم، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٨]، سبحانه وتعالى.

فالله صاحب الفضل على عباده، يلهمهم الإحسان ثم يحسن إليهم، ويجازيهم على ذلك سبحانه وتعالى، قال: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢]، أي: إن فعلك الخير ليس من عند نفسك، ولكن بتوفيق الله سبحانه، وانظر إلى قول شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨]، فهو يدعو الله أن يوفقه إلى رضوانه سبحانه.

وكذلك كل إنسان لا يوفقه إلا الله سبحانه وتعالى، فاعرف الفضل لصاحبه، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:٣٢] أي: الفضل من الله عز وجل أن منَّ على هذه الأمة بأن أورثهم هذا القرآن العظيم وجعلهم من أهله، وجعلهم يعملون به، والفضل من الله أن يتوب عليهم وأن يدخلهم جنته، والفضل عليهم أن جعل منهم السابقين، والسابقون هم أعلى ما يكون عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>