للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)]

قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:٤١].

آية من الآيات العظيمة: أنا حملنا ذريتهم، وكلمة ذرية مأخوذة من الذر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ ومن ما يخرج منها) فهنا ذكر، (ذرأ) أي: بث ونشر وخلق.

والذرية هنا بمعنى المخلوقين، فالذرية تطلق على الأبناء والآباء والرجال والنساء، فمن ذلك ما ذكره الله سبحانه تبارك وتعالى هنا في كتابه: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس:٤١] فالذرية هنا هم الآباء الأولون في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذين خلقناهم وذرأناهم آية لهم، ولو نظروا لعرفوا أننا حملنا آبائهم الأولين الذين كانوا مع نوح في الفلك الذي ما كانوا يعرفون كيف يصنع حتى صنعه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

فكان قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله سبحانه يمرون بنوح ويسألونه: ما هذا؟ يقول: فلك، فيقولون: وما تفعل بها؟ قال: تحمل على الماء، قالوا: أي ماء ونحن في صحراء؟ فكانوا يستهزئون به، قال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:٣٨ - ٣٩] فصنع هذا الفلك، ولم يكن نوح نجاراً متخصصاً في صنع السفن، وإنما {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:٢٧]، فأوحى الله العظيم سبحانه وتعالى إلى نوح أن يصنع هذا الفلك، فعلمه كيف يصنعه، وكان الكفار يمرون ولا يتخيلون كيف يحمل نوح وحده هذا الفلك إلى البحر، وما علموا أن البحر سيأتيهم، فكانوا يسخرون ويستهزئون، فإذا بالله يأمر السماء أن تفتح ماءها على الأرض، وأن تخرج الأرض ماءها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض، وأغرق الله الأرض ومن عليها، ونجى نوحاً ومن معه في فلك يحمل فيها من كل ما خلق الله سبحانه وتعالى زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولم يعش فوق الأرض إلا من كان في هذه السفينة.

فآية من آيات الله عز وجل أنه جعلكم ذرية هؤلاء، فتذكروا نعمة الله عز وجل على آبائكم أن أنجاهم فكنتم أنتم أولادهم وأرسلنا إليكم من يدعوكم إلى الله لتؤمنوا، فاحذروا أن يصنع بكم مثل ما صنع بقوم نوح.

ومن إطلاق الذرية على النساء ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى في غزوة من الغزوات امرأة قتلها جنود خالد رضي الله عنه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد قال للرجل: إلحق بـ خالد وقال له: (لا تقتل ذرية ولا عسيفاً)، والذرية هنا بمعنى امرأة، فكلمة الذرية تطلق في اللغة على هذا كله، وإن كانت أكثر ما تطلق على الأولاد.

{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:٤١] الفلك: السفينة، والفلك تطلق على المذكر والمؤنث، فتقول: هذه الفلك، وهذا الفلك، والفلك تطلق على المفرد وعلى الجمع، فهي كلمة مفردها فلك وجمعها أيضاً فلك.

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس:٤١] هذه قراءة الجمهور: ذريتهم.

وقرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب: ذرياتهم.

(المشحون) الممتلئ، سفينة نوح كانت ممتلئة من الإنس والطير وممن شاء الله عز وجل، قال: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:٤٠]، تخيل أن كل المخلوقات مثل الأسد والنمر والفهد كل هذه الأصناف التي لا تقدر أن تحصي عددها حمل نوح من كل شيء زوجين وجعلهم معه في السفينة، وأنجى الله عز وجل هؤلاء، وأغرق من على الأرض.

{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:٤٢] آية من آيات الله سبحانه أنه علم نوحاً كيف يصنع هذا الفلك الذي يسع هذا العدد الضخم، والإنسان عندما يتخيل أن رجلاً واحداً يصنع سفينة بهذا الحجم الذي يحمل هذه المخلوقات يقول: هذا شيء بعيد، لكنه توفيق الله والإعانة من الله سبحانه وتعالى.

{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:٤٢] أي لهؤلاء الناس، (من مثله): من مثل هذه السفينة يحملون فيها، وكذلك ما يركبون من مثل ذلك.

وتخيل مثل ذلك مما خلق الله عز وجل لهؤلاء ووفقهم أن يصنعوه من سيارة وطيارة وسفينة وعابرات للمحيطات، أي: من مثل الذي علمناه لنوح علمنا هؤلاء وذريتهم أن يصنعوا أشياء فيصنعون من مثله ما يركبون، فالفلك تسبح في البحر، ويصنعون أشياء تسبح في الجو، والله على كل شيء قدير، وهو الذي علمهم ذلك وخلق لهم من مثله ما يركبون، فله الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فهو الذي أعطى للإنسان عقلاً يفكر، ففكر في هذا الشيء وأوجد له الأشياء التي صنع منها ما يركبه في البر والبحر والجو.

{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:٤٣] نحن أركبناهم هذه السفينة، وعلمناهم كيف يصنعون الفلك، فلما صنعوا الفلك اغتروا وعبدوا غير الله تبارك وتعالى، وإن نشأ نغرق هؤلاء فلا يوجد لهم من يغيثهم إذا أغرقناهم.

والصريخ: المغيث والمنقذ، فلا يوجد من ينقذ هؤلاء إذا أردنا أن نهلكهم ونغرقهم {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:٤٣]، والإنسان إذا تطاول على الرب سبحانه أرسل إليه من يقصمه.

فالله وحده على كل شيء قدير، والإنسان عاجز لا يقدر، كم صنع الإنسان من سفينة وأراد الله إغراقها فحطمها، ونذكر سفينة تيتانك التي صنعها أصحابها وسموها بالسفينة التي لا تقهر، وإذا بها أول ما نزلت وركبها أغنياء العالم إذا بالله يقصمها، وتقف السفينة وتنكسر نصفين في المحيط ويغرق الجميع.

هذا غرور الإنسان الذي يوحي له ويوهمه أنه يقدر على ما لا يقدر عليه أحد، صعدت مركبة إلى القمر ثم المركبة الثانية، وبعد ذلك قالوا: سنعمل على القمر مستعمرة، ومواصلات بين الأرض والقمر، وسنعمل وسنعمل، ثم تصعد مركبة فضائية فتحترق، ثم يعيدوا الكرة وتحترق وتنزل إلى الأرض.

الإنسان عندما يغتر ويظن أن بقدرته أن يصنع ويعمل إذا بالله عز وجل يريه آياته ويحطمه ويهلكه ويضيع له هذه الأشياء التي يصنعها، فإذا وصلوا إذا بالله يرينا آيات عظيمة من آياته سبحانه وتعالى التي يذكرها لنا في كتابه.

رواد الفضاء الأمريكان عندما تكلموا عن الصعود للفضاء، وقال لهم الناس: هذه الأموال الضخمة التي تصرفونها على القمر اصرفوها على الفقراء، قالوا: نحن طلعنا القمر واكتشفنا منه معلومات تساوي ما أنفقناه حتى نصل إليه.

فقيل لهم: ما أهم حاجة وصلتم إليها؟ قالوا: وصلنا لحاجة عجيبة جداً، اكتشفنا أن هذا القمر انشق يوماً من الأيام.

وقد قال الله عز وجل ذلك في كتابه من ألف وأربعمائة عام، قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً فأرنا آية.

فواعدهم ليلة، وأراهم انشقاق القمر إلى فلقتين، فإذا بهم يرون نصف القمر أمام الجبل والنصف الآخر وراء الجبل، قالوا: سحرتنا، فقال بعضهم لبعض: إن كان سحرنا فلن يسحر غيرنا، فلننتظر إذا جاء ركب ونسألهم، وانتظروا أياماً وجاء ركب وسألوهم: الليلة الفلانية هل أحد منكم رأى القمر؟ قالوا: نعم.

وما رأيتم؟ قالوا: رأيناه انشق ثم رجع كما كان.

هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصدق هؤلاء الكفار، والمؤمنون على استحياء قالوا: انشق القمر مثلما قال ربنا، والبعض منهم قال: بل هو سينشق يوم القيامة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١] يعني: سينشق القمر يوم القيامة حتى لا يقال لهم: لقد قلتم ما لم نره، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك، وجاء الحديث الصحيح بذلك، وجاء رواد الفضاء ليقولوا: هذا القمر انشق.

من أين عرفتم؟ قالوا: رأينا في صور القمر هذا المكان، عرفنا أنه انفلق في يوم من الأيام، ورجع مرة ثانية لمكانه، لكن واضح أثر الشق في القمر كله، هؤلاء يصدقون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:٥٣]، هذه آية من آيات الرب سبحانه وتعالى.

ويقول: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:٤٣].

لا صريخ: لا منقذ ولا مغيث لهم.

ولا هم ينقذون: لا ينقذهم أحد إلا رحمته، فلا أحد يجيرهم ولا يرد عليهم ولا ينقذهم.

{إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:٤٤] من رحمة رب العالمين أن شاء سبحانه أن يترك هؤلاء ولا يستأصلهم، يعني: لأجل رحمة من الله سبحانه تركنا هؤلاء، فلم أستأصلهم بعذاب وأخرناهم إلى يوم القيامة لعله يخرج من أصلابهم من يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ومتعناهم إلى حين حتى يأتي الأجل، ثم عذاب رب العالمين أو رحمته سبحانه.

نسأل الله من فضله ورحمته إنه لا يملكها إلا هو.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>