للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون)]

قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:٤٨] يعني: أنت تأمرنا بتقوى الله، لماذا؟ {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:١٦]، هم يدعون ربهم أن عجل يوم القيامة، ويسألون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:٤٨].

فيجيبهم ربهم سبحانه وتعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:٤٩] هم يظنون أن يوم القيامة شيء صعب، ولا يعلمون أنه صيحة واحدة بنفخ في الصور يهلك بها جميع هؤلاء، فلا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم، ولا يقدرون على حياتهم بعد ذلك إلا أن يحييهم الله للبعث والنشور.

((مَا يَنظُرُونَ إِلَّا)) بمعنى: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخ في الصور حين يأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ في الصور، فينفخ نفختين، نفخة الإماتة ثم نفخة البعث من القبور.

{مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} [يس:٤٩] تأخذهم هذه الصحية وتهلك كل من فوق هذه الدنيا.

{وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:٤٩] هذه الكلمة (يخصمون) أصلها يختصمون، يعني: يختصمون في أمر الدين والدنيا ويكذب بعضهم بعضاً، ويخاصم بعضهم بعضاً، وهم في وسط هذا الشغل جاءت الصيحة فأخمدت الجميع {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:٥٠] لا يقدر أن يوصي بعضهم بعضاً بالمال والأولاد.

{تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:٤٩] فيها ست قراءات، وكل القراءات راجعة إلى معنى الاختصام: أسهل قراءة فيها قراءة حمزة (وهم يخصمون) أي: يجادل بعضهم بعضاً ويختصم بعضهم مع بعض.

والقراءة التي عندنا في المصحف ((يَخِصِّمُونَ)) هذه قرأها ابن عامر بخلف هشام ويقرؤها عاصم بخلف شعبة.

ويقرؤها غيرهم كـ الكسائي ويعقوب وخلف ((وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)).

ويقرأ قالون وأبو جعفر (وهم يَخْصِّمُونْ) الخاء ساكنة والصاد مشددة، وأصلها يختصمون، وهذه قراءة لـ قالون، وله فيها ثلاثة قراءات.

وقراءة قالون الثانية وقراءة ورش وابن كثير وأبو عمرو بخلف فيه: (وهم يَخَصِّمُون) وهذه قريبة من يَخْتَصِمُون.

ويقرأ قالون قراءة ثالثة وأبو عمرو أيضاً بخلفه بالاختلاس.

وقراءة شعبة عن عاصم فيها إتباع الكسرة للكسرة فالقراءة: (يِخِصِّمُون) وهذه لغة فيها.

وقراءة حمزة (يَخْصِمُون) وهي أسهل هذه القراءات.

كل القراءات مرجعها إلى الاختصام، هذا الاختصام والانشغال بالدنيا يوضحه لنا ما رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة)، وهذا حدث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية رضي الله تعالى عنه، بين أهل العراق وبين أهل الشام، حيث حصلت مقتلة عظيمة واقتتال كبير، ولعله يحدث بعد ذلك قرب قيام الساعة.

قال: (وحتى يبعث دجالون ثلاثون كلهم يزعم أنه رسول الله)، ثلاثون كذاباً يظهرون للناس قبل قيام الساعة كل واحد منهم يزعم أنه رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

(وحتى يقبض العلم) يضيع العلم بقبض العلماء، فإذا بالناس جهلاء يستفتي بعضهم بعضاً فيفتون بجهل.

(وتكثر الزلازل) كانوا فيما قبل يقولون: إن البلاد العربية بعيدة عن حزام الزلازل، أما الآن فقد دخلنا في حزام الزلازل.

قال: (ويتقارب الزمان) يعني: لا تبقى بركة في الزمان، الوقت كله يجري، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرأ في كتب التواريخ كيف كان الوقت عند السابقين، ستجد فعلاً أن وقتنا قصير، مثلاً: الإمام النووي رحمه الله ما بين الصبح إلى الظهر يحضر اثني عشر درساً، ويموت الإمام النووي عن ست وأربعين سنة ويترك كتباً كثيرة منها المجموع هذا الكتاب الضخم في فقه الشافعي، وكتاب روضة الطالبين، وهو كتاب ضخم من كتب الفقه، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، ورياض الصالحين، وكان ينصح ألا يؤلف أحداً قبل سن الأربعين، يا ترى هل ألف هذه الكتب رحمة الله عليه هكذا؟ عندما ننظر في حفظ هؤلاء للأحاديث مثل الإمام أحمد فقد كان يحفظ الحديث من عشر طرق ومن عشرين طريقاً ويعتبر كل واحد منهم حديثاً، ويقول: أحفظ ألف ألف حديث.

أي: مليون حديث.

كان الوقت بالنسبة لهم طويلاً، وهو هو نفس الزمان، ولكن اليوم كان يصنع فيه أشياء لا نقدر أن نصنعها نحن الآن لتقارب الزمان ولقلة البركة، اليوم يجري والشهر والعمر كله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال: (وتظهر الفتن) وما أكثر الفتن الموجودة في عصرنا، وما يأتي بعد ذلك أكثر، نسأل الله العفو والعافية.

(ويكثر الهرج) والهرج القتل كما جاء في حديث آخر، يقتل الناس بعضهم بعضاً، ولا يدري القاتل فيما قتل، ولا القتيل فيما قتل، وتكثر شراسة الأخلاق، وزماننا كثر فيه ذلك بسبب ما فيه من فتن عظيمة وبعد عن الله سبحانه وتعالى، وتقليد للغرب الكافر، يخترعون للناس الألعاب على الكمبيوتر والأفلام الجنسية، أو أفلام سب وقتل ونصب وفضائح ويقلد الناس ما يرونه فيها ويقتل بعضهم بعضاً، ثم يندم بعد ذلك ولا ينفعه ندم.

(ويكثر فيكم المال) سيجيء زمان يكثر فيه المال، فيفيض المال حتى يبحث رب المال عمن يقبل صدقته فلا يجد، كأنه يقول: أدرك نفسك وتصدق قبل أن يأتي زمان تبحث فيه عمن تعطيه الصدقة فلا تجد، لعل الرجل يتصدق ولعله يتصدق الرجل بالمائة دينار فلا يجد من يأخذ منه.

(وحتى يتطاول الناس في البنيان) العمائر الشاهقة العالية وقد حدث ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه وتطاول الناس في البنيان.

(وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه) يمر الرجل بقبر الرجل يقول: ياليتني مكانه، من كثرة مصائب الدنيا والابتلاءات يتمنى الموت، ونجد نحن من ينتحر من الفتن ومما صنع في الناس ومما يصنع ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال: (وحتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، هذه العلامة الكبرى للساعة، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

الشاهد: قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه) ذهب ليشتري قماشاً فيخرج إلى السوق ويتبايع هو والتاجر، وتقوم الساعة على هذه الصورة، فلا يطوي هذا الثوب ولا يستلم هذا المال.

قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) حلب الرجل ناقته وأخذ اللبن لكي يشربه، وقبل أن يشرب هذا اللبن تقوم.

(ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه) الحوض الذي يسقي فيه الغنم والإبل أحضر له الطوب وملأه ماء وأتى بالإبل لتشرب، فتقوم الساعة قبل ذلك.

(ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) تقوم الساعة والناس في انشغال، وتأتي الساعة عليهم وهم في انشغال عن الآخرة والعمل الصالح.

ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث الانشغال بالدنيا والفتن والتكذيب بآيات الله سبحانه، ثم تأتي الساعة عليه فلا يقدر على أن يوصي أحداً بخير ولا بماله ولا بتقوى الله، بل يأتي عليه الموت قبل ذلك، وهذا أشد ما يكون على الإنسان أن يؤخذ بغتة، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح قال: (موت الفجأة أخذة أسف) يعني: الإنسان الذي يمرض قبل وفاته هذه من علامات حسن الخاتمة؛ لأن الله يكفر عنه السيئات بهذا المرض، بينما من يكون فيه غرور وبعد عن الله يخاصم فلاناً ويشتم فلاناً ويؤذي فلاناً ثم يأتيه الموت فجأة، كمن يشرب الحشيش والمخدرات، يموت فجأة فهذه أخذة أسف، أخذة غضبان، وإذا غضب الله على إنسان جعل وفاته وهو في لهوه ولعبه، وجاءه الموت فجأة فلا يقدر على التوبة، أو يقول لا إله إلا الله.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>