للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (إذا ابق إلى الفلك المشحون)]

قال الله سبحانه: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:١٤٠] وأبق بمعنى: ترك المكان، وذهب بإرادته وهو مستطيع لذلك، يقال: عبد آبق يعني: هارب من مولاه، ترك مولاه على قدرة في ذلك، فترك سيده وانصرف عنه، فهذا ترك قومه وخرج بغير إذن ربه سبحانه وتعالى، هذا نبي من الأنبياء، وكل نبي يكلفه الله عز وجل بشيء لا بد أن يفعل هذا الشيء الذي كلفه الله عز وجل به.

ويونس فعل ما أمره الله عز وجل به، ولكن لم يستأذن ربه سبحانه أن يترك هذه القرية، وكأنه لما أنذرهم بعقوبة الله وانتظر هذه العقوبة أن تنزل خلال ثلاثة أيام، مرت ثلاثة أيام ولم ينزل شيء، فهو أمام قومه سيظهر أنه كاذب، ولذلك غادرهم ولم يرجع إلى هؤلاء القوم لما وجد أن العذاب لم ينزل، فغادر القوم وركب السفينة وخرج من عند هؤلاء.

وهنا في خروجه مغاضباً لقومه وخروجه بغير إذن ربه استحق أن يلومه الله سبحانه وتعالى، ولكن يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبي من المسبحين لله سبحانه وتعالى، وممن لم يزل يصعد إلى السماء منه دعوة صالحة لربه سبحانه وتعالى، فقد كان يكثر من الدعاء في كل وقت فنفعه ذلك، قال الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات:١٤٣ - ١٤٤] أي: في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، فكان من المسبحين، والمسبح بمعنى: المصلي، والمسبح: المنزه والمقدس لله سبحانه، والمكثر من التسبيح.

قال الله تعالى عنه هنا: {وَإِنَّ يُونُسَ} [الصافات:١٣٩]، وفي سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:٨٧]، وفي سورة نون {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:٤٨]، فالنون: الحوت، وصاحبه هو يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

قال هنا: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:١٣٩ - ١٤١]، وفي سورة الأنبياء قال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٧ - ٨٨].

وفي سورة القلم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:٤٨ - ٥٠]، لولا نعمة الله عز وجل عليه لذمه الله سبحانه، لأنه لم يستأذن ربه سبحانه، فغاضب قومه وخرج وتركهم، وهذا لو فعله إنسان داعٍ يدعو إلى الله في مكان، وغضب من القوم ولم يستجيبوا وتركهم، لم يكن عليه شيء، ولكن هذا نبي من أنبياء الله لا يتحرك ولا ينطق إلا بأمر الله سبحانه، ولذلك لم يجعل الله له هذه كالخطيئة التي تكون لغيره، إذاً: حسنات الأبرار كما يقولون سيئات المقربين.

والإنسان يزداد قربه من الله عز وجل، ولا يكون حسناً لغيره قد يكون سيئة لهذا، وقد رأينا كيف عاتب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم حين عبس من إنسان أعمى في شيء لو فعله غيره ما عوتب على ذلك، ولكن مقام النبي صلى الله عليه وسلم مقام عالٍ جداً عند الله عز وجل، إذ جاءه ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشغول يدعو الكفار إلى دين الله، ويرجو أن يستجيبوا لدعوته عليه الصلاة والسلام، فلم يزل يقول: علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعبس وما زاد على ذلك، وعبس يعني: قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، فقد كره أن يقطع عليه حديثه صلى الله عليه وسلم مع الناس، فعاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقامه مقام عالٍ جداً عند ربه سبحانه، ولذلك يعاتبه على الشيء الذي لو فعله غيره لا يلام على هذا الشيء، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:١ - ٤].

والله سبحانه عاتب يونس النبي، بل عاقبه سبحانه وتعالى، وقال: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:١٤٣ - ١٤٤]، ذو النون يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا قومه إلى الله سبحانه، فلما لم يستجيبوا حذرهم من عقوبة الله، وأعلن بأنهم يستحقون العقوبة، وأنها تنزل عليهم بعد ثلاثة أيام، فإذا بهم يتوبون إلى الله، ويقبل الله عز وجل منهم ذلك، فيرفع عنهم هذا العذاب، فلما وجد يونس أن القوم مكذبون وأن العذاب لم ينزل، فإنهم سيقولون عنه: إنه كاذب، فتركهم وركب السفينة وخرج من عندهم، قال تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧] يعني: فظن أن الله لن يضيق عليه، وفي القراءة الأخرى: (فظَنَّ أَنْ لَنْ يُقدر عَلَيْهِ) يعني: لن يضيق عليه.

والأمر واسع ويذهب أينما يريد يدعو إلى الله، ولكن ليس بغير إذن من الله، فلذلك لما ركب السفينة مع قومه وهم يعلمون أنه من أنبياء الله فإذا بالسفينة تهبُّ عليها ريح شديدة وتثقل السفينة وتكاد تغرق بأصحابها، فإذا بهم يتعجبون ما حالها؟ السفن حولهم كثير إلا سفينتهم تكاد تغرق! فيقول لهم يونس عليه الصلاة والسلام: إن فيها عبداً آبقاً، يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام.

فيقول بعضهم لبعض: لا بد أن نلقي واحداً منا في الماء من أجل أن تخف هذه السفينة، فقال: ألقوني أنا، إن فيها عبداً آبقاً لمولاه، فيقترعون ثلاث مرات، وتطلع القرعة على يونس عليه الصلاة والسلام، وإذا به يتهيأ ليلقي نفسه في البحر، وإذا بحوت يأتي إليه بجوار السفينة بجوار المكان الذي يلقي نفسه منه، ويذهب إلى المكان الآخر فيأتي الحوت فيه، فعاد إلى المكان الأول فيلقي نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فيلتقمه الحوت، وأوحى الله عز وجل إلى الحوت أن لا يلتقمه وأنه لم يجعله له رزقاً، فكان في بطن الحوت، في ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة بطن الحوت، قال: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧].

<<  <  ج:
ص:  >  >>