للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)]

يقول الله سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩]، هذه فيها زيادة على الصلاة، فالإنسان يصلي الصلوات التي كتبها الله عز وجل عليه ويزيد على ذلك النافلة وخاصة قيام الليل، فهل يستوي هذا الذي يقوم بالليل مع الذي يترك قيام الليل؟ لا يستويان أبداً.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩]، هل يستوي أهل العلم مع أهل الجهل؟ هل يستوي من هو عالم بالله بمن هو جاهل بربه سبحانه تبارك وتعالى؟

الجواب

لا، لا يستوي من علم الله سبحانه تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى علماً يحدث في قلبه خشية من الله عز وجل، والعلم المقصود هو الذي يجعل في قلب الإنسان الخوف من الله والذي يورث الخشية، لا العلم الذي يدفع الإنسان للغرور فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهله، وكلما ازداد علماً ازداد تواضعاً وخوفاً وخشية من الله كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

أما بعض الناس فقد يتعلم يباهي بعلمه ويجادل به السفهاء، فيضيع هذا الدين مع أهل الباطل، فهذا ليس العلم الذي يريد الله عز وجل، ولا هؤلاء الذين شرفهم وفضلهم، وإنما يفضل الله ويشرف من استفاد بهذا العلم خشية وتقوى لله سبحانه، فقيد هنا بقوله: {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:٩] أي: يخاف من الآخرة، ويخاف من حساب الله سبحانه، {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩]، وهنا يؤكد لنا الله في كتابه ما يربي عليه أهل الإيمان من الخوف من الله، والرجاء فيما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] أي: كانوا لنا عابدين بالخشوع لله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يعبد ربه راجياً جنته ومع رجائه يخاف من الله سبحانه، فيكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله، ويخاف من ذنوبه، ولو أنه عبد الله بالرجاء فإنه سيقول: إن ربنا غفور رحيم، فلا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من طاعة الله، بحجة إن ربنا غفور رحيم، والكثير من الناس عندما يقال له: لماذا لا تصلي؟ يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥]، وأنا لا أعمل فحشاء ولا منكراً.

وأي منكر أشد من تركه للصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، فالذي يقول مثل هذا الكلام إنسان جهل عبادة الله سبحانه، ومنّى نفسه بالأماني، وهو مرتكب للكبائر ومع ذلك يحسن الظن بنفسه ويقول: أنا أرجو رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أجل الله لآت، ربنا يخبرنا بذلك، والذي أخبرنا بالأجل أخبرنا بالجنة والنار، والذي يطيع يدخل الجنة، والذي يعصي يدخل النار، وأخبرنا عن عباده الصالحين أنهم يتقربون إلى الله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠].

فالعبادة تكون بالرغبة فيما عند الله فيطمع الإنسان في رحمة الله، مع الرهبة مما عند الله، فالله جعل للعبادة ركنين: ركن الخوف وركن الرجاء، تعبد ربك بهما، فمهما وقعت في الذنوب فارج رحمة الله، وعليك أن تتوب إلى الله عز وجل، أما أن يصر العبد على الذنب ويقول: أنا أرجو الرحمة، فأين الخوف من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى؟! قال الله عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:٦]، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:١٦٥].

دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يجود بنفسه في مرض الوفاة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تجدك؟) قال: أجدني أرجو رحمة الله، وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو)، فإذا اجتمعت الرهبة والخوف في قلب العبد فإن الله يؤمنه مما يخاف، ويعطيه ما يرجو.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩] أي: هل يستوي من يعلم عن ربه سبحانه تبارك وتعالى أنه القوي العزيز سبحانه، وأنه الغفور الرحيم مع من لا يعلم ذلك؟ وهل يستوي الذي يعلم شرع الله سبحانه وهذا الدين المحكم العظيم مع من يجهل دين الله سبحانه؟ فالإنسان الذي يتكلم في الدين لا يجوز له أن يتكلم إلا بعلم من كتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو آية، ولو حديثاً، ولو حكماً شرعياً، واحذر أن تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول عنه ما لم يقل صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: (ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:٩] أي: يتذكر أصحاب القلوب السليمة، وأصحاب الفطر المستقيمة، والبصائر النيرة من أهل الإيمان الذين تنفعهم الموعظة من الله عز وجل.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>