للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:٢٠ - ٢٣] في هذه الآية من سورة الزمر يخبرنا الله سبحانه وتعالى عما أعده للمؤمنين الصادقين المحسنين من غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، والقرآن مليء بهذا الأمر العظيم وبوعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وبذكر الجنة العظيمة العالية والغرف التي فيها التي أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين وللمحسنين الذين يحبون الله ويحبهم الله سبحانه وتعالى، والغرفة: هي الجنة العالية، فلهم جنات عاليات، فأهل الجنة يتراءون أهل الغرف أي: أهل الجنات العالية كما ينظر أحدكم إلى الكوكب الدري الغابر في السماء، فمنازل أهل الغرف في أعالي الجنات، (مبنية) أي: أن الذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بأمره سبحانه، والذي جعل فيها غرسها هو الله سبحانه، والذي أجرى فيها أنهارها هو الله سبحانه؛ إكراماً للمؤمنين فهي دار الكرامة، وهي دار السلام مبنية بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، جنتان كل ما فيهما من فضل الله سبحانه مباح للمؤمنين، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذه الجنات العظيمة، فعن أبي سعيد الخدري فيما رواه البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟) أي: بما عطاهم من فضله سبحانه فقد أدخلهم الجنة وأعطاهم ما شاءوا وزادهم سبحانه (فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين؟!) وكل إنسان في الجنة يرى نفسه من أفضل الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى، وأهل الجنة لا حسد بينهم، فلا يحسد بعضهم بعضاً، بل إن أهل المنزلة الدنيا في الجنة يرون أنفسهم أعطوا ما لم يعط أحد من العالمين، بل إن آخر أهل النار خروجاً من النار وآخرهم دخولاً الجنة، يرى أن الله فضله على غيره من العالمين فيقول: الحمد لله الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين! فالله بكرمه وفضله يجعل كل إنسان من أهل الجنة يستشعر أنه أعطي ما لم يعط أحداً من الناس، وإن كان بعضهم فوق بعض في المنازل، فيقول لهم سبحانه: سأعطيكم أفضل من ذلك يعني أعطيتكم الجنة وأعطيتكم الغرف وأعطيتكم الأنهار وأعطيتكم ما شئتم في الجنة (ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وهذا أفضل نعيم يعطاه أهل الجنة، فكل إنسان حين يرى النعيم أمامه يخاف أن يزول عنه، وأن يأتي يوم من الأيام فلا يجده، فالله سبحانه وتعالى يدخلهم الجنة ويقول لهم {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:٤٩] أي: لا تخافون من المستقبل وأنه ربما يذهب عنكم هذا النعيم الذي أنتم فيه، بل أنتم خالدون في الجنة، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً، وهم قد وجدوا في الدنيا كيف سخط الله على أقوام فخسف بهم ومسخهم وعاقبهم، كما قال الله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:٤٠]، أما إذا دخل أهل الجنة الجنة فلا يرون شيئاً من ذلك أبداً، بل إن الله ينعم عليهم بالرضوان الأبدي فلا يسخط عليهم أبداً نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معهم ومنهم.

وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي منادي) يعني لأهل الجنة (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:٤٣] أي: يقال لأهل الجنة: ورثتم هذه الجنة فصارت لكم وآلت إليكم، ولكم فيها كلما ذكر في هذا الحديث وما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.

وقوله: (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً) أي: أنه لا مرض في الجنة، في الدنيا يعاني الإنسان من المرض حتى إذا دخل الجنة عرف فضل الله سبحانه وعرف النعمة العظيمة التي هو فيها، والدنيا دار الأمراض ودار الهموم وما ينغص حياة الإنسان، هذه هي الدنيا وهي دنيا لذلك، لكن الجنة فيها النعيم المقيم.

(وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً) أي: لا موت في الجنة، الموت كان في الدنيا أما في الجنة فالنعيم المقيم والخلود العظيم.

(وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا) الإنسان في الدنيا يفرح بشبابه ويخاف أن يأتي عليه الهرم، فيأتيه حتى يعجز عن المشي وعن القيام، وأهل الجنة يطمئنهم الله: أنتم شباب في الجنة، ولن تزيد أعماركم بل تسبقون أنتم على العمر الذي دخلتم فيه الجنة عمر ثلاث وثلاثين سنة، وهو أفضل ما يكون في العمر، فيظل أهل الجنة شباباً أبد الآبدين.

(وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) أي: لكم النعيم السرمدي من الله، فلا بأس في الجنة ولا حزن ولا مرض ولا تعب {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:٤٣] أي: بسب ما كنتم تعملون، فعمل الإنسان سبب لدخوله الجنة وليس ثمناً لها، فالباء باء السببية وليست الثمنية، فمهما عملت من عمل لن يكون أبداً ثمناً للجنة، فإن الجنة عالية وغالية، وعمل الإنسان لا يبلغ ثمنها ولكن يدخل الجنة بفضل الله ورحمته سبحانه وتعالى، والعمل سبب لدخولك الجنة.

وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه) أي: يريد أن يوفيكم إياه (فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟!) أي: لقد أعطانا كل هذا النعيم ثم يريد أن يعطينا؟! (قال: فيكشف الحجاب) وحجاب الله عز وجل النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، وهذا في الدنيا لو كشف الحجاب لأحرق كل شيء، فنوره لا يطيقه أحد في الدنيا؛ لأن الإنسان غير مهيأ لذلك، ولذلك قال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣]، والجبل مع قوته العظيمة لم يطق أن يرى شيئاً من نور الله سبحانه وتعالى، فكيف بالإنسان الضعيف؟! لكن يوم القيامة يجعل الله عز وجل للمؤمنين قوة أخرى وجسداً آخر غير الذي كان في الدنيا يطيق المؤمن به أن يرى نور الله سبحانه وتعالى، ويستمتع بالنظر إلى وجهه سبحانه، وهذا أعظم ما يستمتع به أهل الجنة، وكلما ازدادت منزلتهم كان نظرهم إلى الله أكثر وأكثر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثرهم نظراً إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه -أي: ينظرون إلى الله سبحانه وتعالى- فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر) يعني إليه (ولا أقر لأعينهم) فهذا أعظم ما في الجنة، وهو أعظم من كل نعيم، وهو أنعم النعيم وأعظم النعيم، وهو أن ينظروا إلى وجه الله سبحانه وتعالى.

ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وذكر حديثاً طويلاً وفيه (وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال) هؤلاء من أكثر أهل الجنة: ذو سلطان كالحاكم والأمير ومن له سلطة، وفقه الله سبحانه أن يحكم بين الناس بالعدل والقسط، (متصدق) يعطي ولا يحبس المال عن الناس ولا يبخل عليهم، (موفق) أي: يوفقه الله سبحانه وتعالى لطاعته وللحكم بما أنزل من عنده سبحانه وتعالى.

قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) هذا الإنسان ليس قاسي القلب؛ ولذلك مدح الله عز وجل الم

<<  <  ج:
ص:  >  >>