للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب)

قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] يخبرنا سبحانه عن يوم القيامة وما يكون فيه فيقول: ((وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: الذين ظلموا أنفسهم بأن أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وأشركوا معه غيره، والذين عصوا ربهم ولم يتابعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، لو أنهم يوم القيامة معهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه أضعاف مضاعفة، معهم كنوز الأرض جميعها أو مع أحدهم ومثلها معها لافتدى بها من عذاب يوم القيامة، يفتدي من النار بكنوز الأرض، كيف وهو لا يملكها، لم يملكها في الدنيا وليس معه شيء منها في الآخرة، قال: ((لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية العظيمة فيها معان عظيمة ينبغي للإنسان أن يتأملها، وأن يراجع نفسه وعمله مع هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) [الزمر:٤٧] أي: بدا لهم من الله، كأن الإنسان ظلم نفسه في الدنيا وأحسن الظن بزعمه أنه إذا رجع إلى الله فإنه سيكرمه وسيدخله الجنة، هو أحسن الظن في نفسه وأساء العمل، فلما جاء يوم القيامة بدا له ما لم يكن يحتسب! قال الله عز وجل عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] أي: هؤلاء الكفار عملوا في الدنيا أعمالاً يرونها صالحة، ومن أسلم منهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم، يقول الرجل: (إن أبي كان يصنع كذا وكذا وكذا، كان يطعم في الجاهلية، وكان يسقي الحجيج، وكان يعتق الرقاب، فهل ينفعه ذلك؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) يعني: أنه كان يعمل هذه الأشياء في الدنيا ليس لله سبحانه، فكونه يطعم الحجيج ويسقيهم، ويفك الرقاب، ويعين الإنسان المظلوم، لا ينتفع بذلك، ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) فالإنسان الذي يرائي بعمله في الدنيا، فيعمل حتى يقال عنه: عالم، وحتى يقال عنه: جريء، وحتى يقال عنه: شجاع، وحتى يقال عنه: قارئ، وحتى يقال عنه: منفق وجواد، فإذا جاء يوم القيامة: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)).

يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات.

وقال غيره: عملوا أعمالاً وتوهموا أنهم يتوبون إلى الله قبل الموت.

والإنسان يخدع نفسه بالتسويف ويقول: في هذا اليوم سنعصي ربنا وغداً سنتوب فخدع نفسه فخدعه الله سبحانه وتعالى، ولم يأت هذا اليوم الذي توهم أنه يتوب، وإنما عاجله الموت وبادره قبل أن يتوب، ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)).

يقول الإمام الثوري رحمه الله: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم، هذه آيتهم وقصتهم.

أي: المراءون الذين يراءون بأعمالهم، ويطلبون من الناس المدح على أعمال المفترض أنها تكون لله سبحانه وتعالى، لكنهم طلبوا من الناس المدح فمدحهم الناس وضاع ثواب العمل، فوجدوا من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

يقول عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، ومحمد بن المنكدر كان من الزهاد العباد الصالحين، فلما جاءه الموت وجدوه في غاية الجزع والخوف فقالوا: كيف تجزع وأنت تموت، وقد كنت تصلي وتقوم الليل وتكثر من الذكر؟! ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله! قالوا: أي آية؟ قال: هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) هذا العابد الزاهد خاف في آخر عمره من هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) فكيف بغيره؟! فالإنسان المؤمن يحاسب نفسه، ويراجع نفسه في كل عمل من الأعمال، هل هو مخلص لله أو غير مخلص؟! هل هو متابع للنبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله أم مبتدع في دين الله سبحانه؟! فليحذر كل من هذه الآية، وليحذر أن يرائي في الدنيا وأن يعمل أعمالاً ليست على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي يوم القيامة ويرد عليه عمله، ويقال له: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>