للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عظيم رحمته سبحانه وأنه يغفر الذنوب جميعاً، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

والقرآن مليء بآيات رحمة الله رب العالمين سبحانه، وأيضاً فيه ما يبين شدة بطشه وانتقامه وبأسه وعذابه سبحانه وتعالى، فيذكر الرحمة والعذاب؛ حتى لا ييئس الإنسان المذنب من رحمة رب العالمين، وحتى لا يطمع الإنسان المسيء في رحمته سبحانه ويتناسى عذابه؛ فيقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٢ - ١٦]، فبطشه شديد وهو الغفور الودود سبحانه وتعالى.

وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:٦]، فالله سبحانه ذو مغفرة للناس مع ظلمهم ومع إساءتهم، ومع ذلك هو شديد العذاب على من يسيء ولا يتوب إلى الله سبحانه وتعالى.

يقول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:٥٣]، رحمة الله واسعة لمن تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بأنه غفور رحيم، ولا تيئس من رحمة ربك، فالمؤمن بين أمرين: بين الخوف من ذنوبه وعقوبتها وبين رجاء رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته للذنوب، وإذا رجا العبد رحمة الله وخاف من عذابه، كان أهلاً لأن يرحمه الله وأن ينجيه من عذابه، وإذا اغتر الإنسان برحمته وترك ما دل على أنه يعذب بالذنب ويأخذ به سبحانه وتعالى وتناسى، فأساء في الدنيا وأسرف على نفسه وعصى الله سبحانه، واستهان بعقوبته سبحانه؛ فإنه مستحق لعذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى ولو كان ممن يحفظون القرآن، ويجاهدون في سبيل الله طالما أنه وقع في الاستهانة بعذاب الله سبحانه، وطالما أنه عمل لغير الله وليس لله سبحانه، فراءى في الدنيا وسمع وانتظر المدح من الناس، ولن ينتفع بشيء من الذي كان يفعله.

فالإنسان المؤمن يخلص لله سبحانه ويتابع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف من عذاب الله ويرجو رحمة الله، وهذا هو الذي يستحق المغفرة من الله سبحانه وتعالى.

وهذه الآية نزلت في العهد المكي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه يعملون ويخافون من الله سبحانه، ولا يشركون به، وكانوا قلة، ومع ذلك كان سبحانه وتعالى يأمرهم: توبوا إلى الله سبحانه اعملوا من الصالحات.

وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبقي كثير من المسلمين في مكة ممن كانوا يكتمون الإسلام ولا يقدرون على الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من استطاع ثم رجع وفتن، كما جاء في الحديث: أن هشام بن العاص فعل ذلك، ثم نزلت هذه الآيات على النبي صلوات الله وسلامه عليه وكأن هذه الآية من هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة والسورة مكية، ولا يمنع أن تكون السورة مكية وينزل بعضها في المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت لهذا السبب فتكون نزلت في المدينة، ولا يمنع أن تكون نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ثم نزل بها جبريل مرة أخرى على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يذكره بهذا الحكم.

وقد هاجر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى المدينة، وأراد عياش بن ربيعة وهشام بن العاص أن يهاجرا، فاستطاع عياش أن يهاجر مع عمر ولم يستطع هشام بن العاص فأخذه أهله وفتنوه فافتتن، فلما نزلت هذه الآية كتب بها عمر إلى هشام بن العاص فقرأها فعلم أن له توبة، فهاجر فكان من المؤمنين بعد ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن) فهم ناس من أهل الجاهلية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: هذه الدعوة دعوة جميلة، وهذا الدين دين عظيم، ولكن نحن قتلنا في الجاهلية، ووقعنا في الفواحش، فلو أخبرتنا أن لنا توبة لدخلنا في هذا الدين، فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:٦٨ - ٧٠]، فالله سبحانه وتعالى جعل لهم ما يكفر عنهم هذه السيئات وهو أن يتوبوا، ويدخلوا في دين الله عز وجل، فإذا فعلوا ذلك تاب الله عز وجل عليهم.

ونزلت: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).

وهذه السورة مكية فقد نزلت بمكة وهذه الآية منها أو أن بعض الآيات نزلت بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فألحقت بالسورة، أو أنها نزلت كلها في مكة ثم جاء جبريل ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات في هؤلاء الذين لم يهاجروا وفتنوا ثم أرادوا أن يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلاها النبي صلى الله عليه وسلم فتذكرها عمر وأرسل بها إلى هشام بن العاص، فراجع نفسه وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتاب إلى الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>