للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها)]

قال الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:٦٩] لا يحتاجون إلى شمس ولا إلى قمر، ولكن الله عز وجل الذي حجابه النور سبحانه وتعالى، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره سبحانه وتعالى.

فالأرض تشرق بنور ربها سبحانه وتعالى، ينيرها كما يشاء: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} فيوم القيامة انتهى أمر الشمس والقمر، لا توجد شمس ولا قمر في هذا اليوم، ولكن قبل قيام الساعة من الأحداث تشرق الشمس من مغربها، فإذا كانت القيامة يذكر الله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:١ - ٦] ذكر الله سبحانه أحداثاً تكون في ذلك اليوم العظيم.

فقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: كور بعضها على بعض فانطفأ نورها وسقطت، لم يعد هناك شمس مرة أخرى يوم القيامة، إلا ما يشاء الله عز وجل في الموقف بين يديه سبحانه، وليست للإنارة للخلق ولكن للإحراق، وللتشديد على الناس.

فيوم القيامة النور نور الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يحتاجون إلى غيره، ولكن يجعل الشمس تدنو من رءوس الخلق يوم القيامة حتى يفيضوا ويتصببوا عرقاً، فمن لم ينزل عرقه في الدنيا في طاعة الله سبحانه، وفي خدمة دين الله سبحانه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي عمل الخير، ووفر عرقه لغير ذلك من معاصي الله سبحانه؛ فهذا يبذل العرق يوم القيامة عرقاً غزيراً، حين تدنو الشمس من الرءوس، فإذا به يتصبب عرقاً، والعرق بحسب عمل الإنسان، فمن الناس من يغطي عرقه قدميه، ومنهم من يرتفع إلى ساقيه، ومنهم من يرتفع إلى ركبتيه إلى حقويه إلى منكبيه، ومنهم من يغطي عرقه رأسه يوم القيامة، فهو غارق في عرقه وفي نتنه؛ لأنه لم يبذل في الدنيا لله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ)) أي: كتاب أعمال الخلق، والكتاب جنس الكتب، أي: كل إنسان يرى كتاب عمله وصحيفة عمله الذي عمله في الدنيا، تتطاير الصحف، فمن آخذ بيمينه، ومن آخذ بشماله من وراء ظهره، فأما من أخذ كتابه بيمينه فهؤلاء الناجون، ويقولون: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩] أما من أخذ كتابه من رواء ظهره بشماله فيقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:٢٥ - ٢٦].

ثم قال: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ)) أي: أحضروا في هذا اليوم.

وقوله: (وجيء) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((وَجِيءَ) وقراءة هشام والكسائي ورويس: ((وجُيء)) بإشمام الجيم الضمة؛ لبيان أنه مبني للمجهول، فهنا ثلاث كلمات تأتي في هذه الآية والتي تليها والتي تليها، ((وَجِيءَ)) و {قِيلَ} [الزمر:٧٢] {وَسِيقَ} [الزمر:٧٣] فهي تقرأ على البناء للمجهول: ((وجُيء)((وسُيق)) و ((قُيل)) وهذه قراءة هشام والكسائي ورويس، وفي كلمة ((وسيق)) سيكون ابن عامر وهشام وابن ذكوان يقرءونها كذلك.

وقوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ)) قراءة الجمهور ((بِالنَّبِيِّينَ) وقراءة نافع: ((بالنبيئين)) من النبوءة، والتنبؤ، وهذا أصلها أنه نُبِئ وأخبر، وأوحي إليه بأمور من أمور الغيب وبما شاء الله عز وجل من تعليم لهذا النبي، ليعلم أمته التوحيد، فإذا كلف بشريعة: أوامر ونواه، حلال وحرام، فلابد أن يبلغ الخلق، وإذا نزل عليه كتاب صار رسولاً، فمن نزل عليه كتاب من السماء بشريعة كاملة، وأحل الله عز وجل له أشياء في كتابه، وحرم عليه أشياء، فهذا رسول مرسل برسالة يبلغها إلى قومه.

ثم قال: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ))، الشهداء جمع شهيد، والشهيد: هو من يشهد على الشيء، فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة، والنبي عليه الصلاة والسلام شهيد على الجميع، والأنبياء شهداء على أممهم، والشهداء أيضاً: هم العدول من كل أمة، وهم الذين قتلوا في سبيل الله سبحانه وتعالى.

فيؤتى بهؤلاء الشهداء جميعهم، ويؤتى بشهداء الله سبحانه وتعالى، وهم الملائكة الذين يشهدون على الخلق بما عملوا، فالشهداء من عند الله عز وجل ملائكة الله، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:٢١] أي: يشهد عليها من ملائكة الله عز وجل.

ثم قال: ((وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)) أي: قضي بين الخلق القضاء الحق من رب العالمين، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦].

الحق من عند الله سبحانه، وهو الذي أمرهم الله عز وجل أن يلتزموه في الدنيا فأعرضوا عنه، فيقضى بينهم بالحق وبالحكم الفصل، وهو أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وهو الملك الحق المبين.

ثم قال: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) أي: لا يظلمهم الله عز وجل مثقال ذرة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>