للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة غافر: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:٤ - ٧].

في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أمر الكفار وجدلهم بالباطل ليدحضوا به الحق -ليزيلوا به الحق- الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:٤]، فالكافرون دائماً أبداً يجادلون بالباطل، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:٨]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:٣٢].

وقد ذكر الجدل في هذه السورة خمس مرات، وغاية الكفار من الجدل بالباطل رغبتهم في دفع الحق، فهم يريدون أن يزيلوا ما نزل من عند الله، وأن يمحوا أثره إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، قال سبحانه: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:٤]، فالذي يجادل بالباطل ليلبس على الناس دينهم، ويصرفهم عن آيات كتاب رب العالمين بالتشكيك كافر في كل عصر وفي كل مكان، ومن وسائلهم المشتهرة في تشكيك المؤمنين في آيات الله عز وجل أن يجادلوا فيها حتى يدخلوا الشكوك في القلوب، ويزرعوا الشبه في العقول.

وقوله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:٤]، أسلوب قصر أفادته (ما) النافية و (إلا) الاستثنائية، والمعنى: ما يفعل هذا الجدل إلا الكفار، فدأبهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق، ولكن الله أخذ هؤلاء وأتلفهم وأهلكهم جزاءً بما قدموا، وقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:٤] أي: فلا يغررك أن تركناهم، إنما نملي لهم ليستوجبوا المزيد من الرجس والعذاب، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:١٧٨].

وقوله: {فلا يَغْرُرْكَ} [غافر:٤] أي: لا تغتر بما أعطيناهم، ولا يخدعك ذلك عن أمر الله وعن دين الله، والإنسان حين يرى الكافر يكفر بالله، ويجادل بالباطل، ومع ذلك يعطيه الله المال والبنين والقوة والرئاسة والمنصب في الدنيا، وإن كان مؤمناً قد يحدث في قلبه شيء مما يرى، ولذا يوجه الله نبيه فيقول: لا تغتر ولا تنخدع بما أعطيناهم، ولا يصرفنك ذلك عن دعوتك فإنك على الحق، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم كل داعية في حتمية أن يبتليه الله سبحانه بمثل هؤلاء، فيرى أصحاب القوة والمنصب يتكلمون والناس يسمعون لما يقولون، ويراهم يهرفون بما لا يعرفون، فيتكلمون في دين الله، ويناقشون أهل الدين، وحين يتكلمون يتكلمون بصوت عال، ويراهم قد تملكوا صحفاً وقنوات فضائية تنشر تراهاتهم، وحين يأتي عالم الدين ليتكلم يسكته أذيالهم والمنبهرون بما هم فيه، وهم بذلك يظنون أنهم علوا على المؤمنين، ولا يدركون أنهم مهملين إلى حين، فإذا جاء أجلهم أخذهم الله وقصمهم قصماً شديداً أليماً جزاء بما كانوا يعملون.

فقوله تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ} [غافر:٤] أي: لا تغتر بتقلبهم في مناصبهم، وأموالهم، وذهابهم ومجيئهم وأسفارهم وهم يتكسبون في هذه الدنيا فإنما هو متاع قليل زائل، وما الذي نصنعه معك بإعطائهم وحرمانك إلا ابتلاء وفتنة ومحنة، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:١ - ٢]، بل لا بد وأن يفتن المؤمن ويبتلى حتى إذا قال له ربه: لا تحزن، يصدق ما يقوله الله عز وجل ولا يغتر بما هم فيه من الباطل، ويوقن أن الله ناصره يوماً من الأيام.

قوله تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:٤] أي: تصرفهم في البلاد في ذهابهم ومجيئهم، في حكمهم ورياستهم وسلطانهم، وكل ذلك لا تغتر به، فلا تغتر إن سلمهم الله سبحانه فجعل فيهم صحة وعافية ومنحهم الأموال والبنين، فإن هذا متاع الحياة الدنيا إلى حين، ثم يسلب منهم حين يأتي أمر الله سبحانه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>