للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم)]

يقول لهم سبحانه: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:١٢]، وهنا حذف يدل عليه الكلام، يقول الله عز وجل: (ذَلِكُمْ) أي: هذا العذاب الذي تعاينونه، وتتعرضون له، وكأنه يقول: إنكم تستحقون هذا العذاب،

و

الجواب

لا، ليس إلى الخروج سبيل والعياذ بالله.

أي: لا سبيل إلى الخروج؛ وذلك لأنكم تستحقون ذلك، فقد كذبتم قبل ذلك العذاب الذي تدخلونه وتعاينونه، وكنتم (إِذَا دُعِيَ اللَّهُ) أي: كنتم قبل ذلك إذا وجدتم من يوحد الله سبحانه ويعبده تشمئزون وتكفرون، {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر:١٢]، وكان إيمانهم كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]، فيقولون: الله هو الخالق، لكن إذا قيل لهم: اعبدوه، قالوا: إنها تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، ومع ذلك فهم يعبدون غير الله سبحانه، فلا يصدقون بالله إلا وهم يشركون بعبادته سبحانه.

قال سبحانه: {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:١٢]، فالحكم له وحده سبحانه، فهو الذي يحكم فيكم بهذا العذاب، وهو العلي سبحانه لا شيء أعلى منه سبحانه، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه، ولا غالب لأمره، فهو الذي يعلو سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فحكمه أعلى وفوق كل حكم، فالحكم لله العلي، فله علو الذات سبحانه، وله علو الشأن سبحانه، وله علو القهر سبحانه، فهو فوق كل شيء، وأكبر من كل شيء، ويحكم على كل شيء، ولا معقب لحكمه سبحانه.

يقول محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء! إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون فهلم فلنصبر، فصبروا، فطال صبرهم، ثم جزعوا فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:٢١]، فلا ينفع الصبر في النار، وسواء صبروا أو جزعوا فما لهم من مهرب ولا مخرج ولا مخلص منها، فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:٢١ - ٢٢].

فقد تبرأ الشيطان منهم في هذا الوقت، وهو الذي دعاهم في الدنيا إلى عبادة غير الله فاتبعوه، فلما جاءوا يوم القيامة نظروا فلم يجدوا لهم مهرباً، ولم يجدوا لهم سبيلاً للخروج من النار، وتبرأ منهم الشيطان، وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:٢٢]، فقد كنت أوسوس لكم فقط وأنتم الذين ضللتم واتبعتم الهوى، فتستحقون ما أنتم فيه من العذاب.

يقول: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢]، أي: بما كنتم تعبدونني من دون الله، فقد كنتم تعبدون الأصنام التي أمرتكم بعبادتها، وقد كنت أعلم أن الله سبحانه واحد، وهو المستحق للعبادة وحده دون غيره، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢].

فلما سمعوا ذلك -وكانوا قد صبروا وطال صبرهم- جزعوا فصرخوا، ووجدوا الشيطان يتبرأ منهم، فهنا في هذا الوقت إذا بهم ينادون وقد مقتوا أنفسهم: ضيعنا وفرطنا، واتبعنا هذا الذي كان لا يملك لنا شيئاً، وأخذنا من الدنيا ما أخذنا فاستحققنا العذاب، فأبغضوا وكرهوا أنفسهم، ونادوا على أنفسهم: نحن نمقت ونكره أنفسنا، فإذا بهم يُنادَون: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، أي: أشد (مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فحكم وفصل بين عباده، وأحق الحق، وأبطل الباطل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>