للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم)]

الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة غافر: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:٢١ - ٢٥].

في هذه الآيات من سورة غافر يخبرنا الله سبحانه وتعالى بعلمه العظيم، فإنه سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]، وبقضائه المحكم بين عباده، وبفصله بالحق بينهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر:٢٠]، فيجازي سبحانه وتعالى المحسن على إحسانه بالحسنى وزيادة، ويجازي المسيء على إساءته، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر:٢٠]، أي: ما يعبدونه من أوثان ومن أصنام لا يقضون بشيء، ولا يملكون أن يفصلوا بين الخلق، وأن يقضوا بينهم، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيرهم.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٢٠]، فالله هو الذي أحاط سمعه كل شيء، وأحاط علمه وبصره بكل شيء، يعلم ما ظهر وما خفي، يعلم ما قاله الإنسان وما أخفاه في صدره وما أكنه، يعلم نيته، يعلم ما في حاضر وما في مستقبل هذا الإنسان، وإلى أي شيء يصل يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٢٠].

ثم يأمر عباده أن يسيروا في الأرض فيتفكروا في مصارع السابقين، فقد عاش على هذه الأرض أناس قبلهم، عاشوا كما عاش هؤلاء، وخاضوا كما خاض هؤلاء، فأهلك الله عز وجل السابقين، فما ينتظر هؤلاء اللاحقون من الله عز وجل إلا مصير السابقين، قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا} [غافر:٢١]، ويعتبروا بما وقع على الأرض، {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:٢١]، كيف كانت العاقبة والنهاية، فهم عملوا في هذه الأرض، واستمتعوا بخلاقهم، وخاضوا في هذه الدنيا، ثم في النهاية أماتهم الله وأهلكهم سبحانه وتعالى فلم يملكوا لأنفسهم شيئاً.

قال تعالى: {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:٢١]، لكنهم مضوا وذهبوا، لقد كانوا في هذه الدنيا ملوكاً، كانوا رؤساء، كانوا أقوياء، كانوا أغنياء، خاضوا في هذه الدنيا، ألا تعتبرون بما حدث لهؤلاء؟ كيف كان عاقبة الذين كانوا في الماضي؟ ((كَانُوا هُمْ))، وقد عبر بكان التي تفيد أن الشيء انتهى وصار أثراً بعد عين، فبعدما كانوا حاضرين صاروا آثاراً، وصاروا ذكراً، وصاروا عبرة يعتبر بهم الناس، فكرر سبحانه (كانوا)، ليؤكد أنهم كانوا في الماضي وانتهى أمرهم وذهبوا إلى ربهم ليجازيهم بأعمالهم.

{كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [غافر:٢١]، هؤلاء السابقون يذكر الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا أشد من هؤلاء الموجودين الآن، فقد كان السابقون من الكفار أشد من اللاحقين الموجودين.

وقوله: (مِنْهُمْ) هذه قراءة الجمهور، أما ابن عامر فقرأها: (كانوا هم أشد منكم) أي: أنتم أيها الموجودون أضعف منهم في الأبدان، فهم كانوا أقوى منكم، كانوا أطول منكم، وكان لهم في هذه الدنيا أعمار، فمنهم من عاش ألف سنة، ومنهم من عاش ثلاثمائة سنة، ومنهم من عاش خمسمائة سنة، فقد عاشوا سنين طويلة، فهل نفعتهم أعمارهم وقد كانوا يكفرون بالله سبحانه؟ وهل نفعهم إعمارهم لهذه الأرض وقد كانوا يكفرون بالله سبحانه وتعالى؟ وهل انتفعوا بهذه الآثار التي خلفوها من ورائهم؟ فهم قد ذهبوا وتركوا الآثار، فانظروا إليها واعتبروا يا أولي الأبصار.

قال تعالى: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} [غافر:٢١]، فترون آثارهم، يسير الإنسان فيقول: هذه آثار الأقدمين، هنا كان قوم عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:٧]، كانت بيوتهم عظيمة في هذه الجبال، وكانوا يتخذون من هذه الآثار ما يدل على قوتهم فرحين بذلك، أرادوا أن يظهروا مهاراتهم وأن يظهروا قوتهم، لكنهم خالفوا ربهم، وخالفوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، فكفروا وذهبوا وبقيت الآثار تدل على أصحابها الذين صاروا ذكراً بعد ذلك، قال سبحانه: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر:٢١]، لم يأخذهم ظلماً سبحانه، وحاشا له أن يظلم أحداً من عباده، وإنما أخذهم بسبب ذنوبهم، بسبب ما اقترفوا من أعمال سيئة.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:٢١]، أي: لم يكن لهم من ينصرهم، ومن يقيهم عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وكلمة (واق): نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فلا كبير ولا صغير ولا شيء يقيهم من الله سبحانه وتعالى، فما وجدوا لهم أحداً ينصرهم من عذاب الله.

وقرأها الجمهور بالوقف على تسكين القاف (واقْ)، وقرأها ابن كثير وقفاً: (من واقي) فيقف عليها بالياء، فإذا وصل وصلها بغير ياء (من واق ذلك بأنهم).

<<  <  ج:
ص:  >  >>