للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا فقالوا ساحر كذاب)]

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٣ - ٢٤]، هذه قصة من قصص القرآن العظيم، يسوق لنا ربنا فيها قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام هو الرسول صاحب الشريعة قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكثيراً ما يذكر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام بياناً لأن موسى كان صاحب شريعة، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:١٧]، مع أن الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن ذكر (كِتَابُ مُوسَى)؛ لأنه كان كتاب تشريع، فالتوراة كتاب شريعة والقرآن كتاب شريعة مهيمن على ما قبله من الكتب، فهذا القرآن شاهد على صحة ما جاء قبل ذلك، وناسخ لما جاء قبل ذلك من شرائع من عند رب العالمين، والشريعة الباقية هي ما في هذا القرآن العظيم، وهو ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه.

فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر موسى عليه الصلاة والسلام، أما عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فهو قد جاء ليحكم بشريعة موسى، وإن كان قد أحل لهم بعض الذي حرم عليهم، لكنه لم يلغ شريعة موسى، فكأن صاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو موسى عليه الصلاة والسلام، والكتاب الذي كان قبل القرآن هو التوراة؛ لأن الإنجيل لم يكن كتاب شريعة، بل كان كتاب مواعظ فقط، أما التوراة فكان كتاب شريعة، فعندما تذكر القرآن يذكر قبله التوراة؛ لأن التشابه بينهما أن هذه شريعة وهذه شريعة، فموسى كان صاحب شريعة ونبينا صلى الله عليه وسلم كذلك، أما عيسى فكان يحكم بشرع من قبله، بشرع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر:٢٣]، وفي الإسراء قال: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:١٠١]، إذاً أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون وملئه بآيات بينات، وفي الأعراف ذكر أنها {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:١٣٣]، فاستكبر هؤلاء وكانوا قوماً مجرمين.

ذكر ربنا سبحانه وتعالى أنه أرسل موسى بآيات من عنده، أي: بمعجزات، وبـ (سُلْطَانٍ مُبِين)، والسلطان: هو الحجة، وكأن المقصود بها التوراة التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، فقد أنزل عليه ألواح التوراة حين ناجى ربه سبحانه وتعالى، فقوله: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [غافر:٢٣]، أي: بحجة بينة واضحة جلية من عند الله، تبين عن نفسها وتفصح عن حقيقتها وصدقها، هذا معنى كلمة (مُبِينٍ)، أي: بين واضح.

وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر:٢٣]، وهي تسع آيات، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى وهي: اليد، والعصا، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:١٣٠]، فهذه أربع آيات: اليد، والعصا، والسنون، ونقص من الثمرات، وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:١٣٣]، فذكر تسع آيات أرسل بها موسى إلى هؤلاء الكفار حتى يؤمنوا، لكنهم كما قال عنهم: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:١٣٣].

لقد أرسل الله عز وجل موسى بهذه الآيات: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:٢٤]، فرعون من هؤلاء الكفار الذين طغوا وأفسدوا في الأرض، قال لقومه وقد كانوا ضعاف العقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:٥٤]، إذاً فرعون كان ملكاً اغتر بملكه فاستكبر وزعم أنه إله، بل تجاوز ذلك وقال إنه رب، وهو كذاب مجرم، يقول للناس: أنا إله فاعبدوني، وهو بذلك كأنه يقول: أنا أجلب الود، أنا أرزق، أنا أحيي، أنا أميت، وهو يعلم أنه كذاب فيما يقول، ولذلك أذله الله عز وجل أعظم الذل وأفظع الذل وأشنع الذل حين ألقاه في اليم وقال: {الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢].

وهامان رأس من رءوس الكفر، وهو تابع لفرعون، فقد كان وزير فرعون، ففرعون غره ملكه، وهامان غرته وزارته، وهما من أهل مصر، ومن ملوك مصر، وفرعون كان الملك وهامان كان الوزير، أما قارون فكان من بني إسرائيل، ابن عم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فسبحان من جمع هؤلاء: فرعون هذا الرجل الملك المتكبر، وهذا الوزير الطاغي، وقارون الغني صاحب الأموال، الذي هو من بني إسرائيل الذين ذاقوا العذاب من فرعون وملئه، وهذا الرجل مع غناه العظيم وهو من بني إسرائيل لكنه لم يعطف على قومه، بل خرج من هؤلاء واستكبر على قومه واغتر بما هو فيه، وحسد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن آتاه الله عز وجل الرسالة، فكان مع فرعون على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجمعه الله عز وجل معهم في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا جمعهم على الكفر، وفي الآخرة جمعهم في النار.

قال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:٢٤]، فماذا قال هؤلاء لموسى؟ قالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٤]، قالوا له: أنت ساحر، وأنت كذاب، حتى قارون يقول ذلك مجاملة لهؤلاء، يقولها وهو يعلم أن موسى صادق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>