للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة غافر: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:٦٦ - ٦٨].

في هذه الآيات يأمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بعبادته وحده لا شريك له، وأنه بعث عليه الصلاة والسلام ليدعو الخلق إلى ذلك، ونهي هو عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنداداً من دون الله وغيره بالتبع، ونهي أن يعبد الذين يعبدون من دون الله، وقد كان المشركون يتمنون من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يسفه آلهتهم وأحلامهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بذلة هذه الآلهة وأنها لا تستحق أن تعبد، وأنه لو فعل ذلك كانوا على استعداد أن يدخلوا معه في دينه صلوات الله وسلامه عليه، بشرط ألا يسفه أحلامهم ولا يتكلم على آلهتهم، ولكن أبى له ربه سبحانه إلا أن يصدع بالحق، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر صلوات الله وسلامه عليه، فقال له: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).

قوله: (إِنِّي نُهِيتُ) أي: نهاه ربه سبحانه، وما تقرب إلى آلهتهم قط لا قبل البعثة ولا بعدها صلوات الله وسلامه عليه، فنهاه ربه عن ذلك، وهو الذي يدعو الناس إلى التوحيد، والكفار يشنعون عليه صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: هذا الذي يدعونا إلى التوحيد يقول: الله والرحمن ويشرك، قالوا ذلك وهم يعلمون أنهم يكذبون ويهرفون بما لا يعرفون، وربنا سبحانه يكذبهم ويقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:١١٠] سواء دعوته باسمه العظيم (الله) أو باسمه العظيم (الرحمن)، أو بأي اسم من أسمائه الحسنى سبحانه فكلها أسماؤه، والمسمى واحد هو الله سبحانه وتعالى.

فقال لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويقولون: يدعونا للتوحيد وهو يشرك: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) أي: جاءه هذا القرآن العظيم وجاءه الوحي، وجاءه ما يصدق به صلوات الله وسلامه عليه، ويجعلهم يصدقون ويؤمنون، جاءه هذا القرآن العظيم الذي أعجز بلغاءهم وفصحاءهم فلم يقدروا أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور مثله مفتريات، ولا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك.

فقوله: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أي: نهاني ربي سبحانه وتعالى، وقوله: (أَنْ أَعْبُدَ) أي: أن أتوجه ولو بشيء قليل من العبادة إلى هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله، (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) أي: لما جاءني القرآن وجاءتني الآيات البينة من ربي، والبينة أي: الظاهرة الجلية الواضحة التي تبين عن نفسها، وتبين لكم الحق الذي أنا عليه، وتبين لكم كيف أن هذا القرآن معجز وعظيم.

قال تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ)، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بدين الإسلام وأمر أن يسلم، وأمر الخلق أن يسلموا لله سبحانه وتعالى، فأنت مسلم أي: مسلم نفسك لله سبحانه وتعالى، وموجه وجهك إليه، ومسلم قلبك له، يفعل بك ما يختاره لك وما يريده وما يشاء سبحانه، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فالذي خلق هو وحده الذي له الأمر، فلله سبحانه الخلق، ولا أحد غير الله سبحانه يخلق، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:١٧].

فإذا كان هو الذي يخلق فله الأمر وحده سبحانه، أي: له التشريع، وله أن يأمر بما يشاء، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] وأمر الله سبحانه واجب التنفيذ، فهو كما خلقك من دون أن يستشيرك كذلك يأمرك من دون أن يأخذ رأيك، فله الخلق سبحانه وله الأمر يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يريد سبحانه ويحكم في عباده بما يختاره سبحانه.

فقوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) أي: أن أسلم أمري ونفسي لله سبحانه يحكم فيَّ بما يشاء سبحانه وتعالى، إذاً: دين الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا لله أي: وجهوا وجوههم لله، وسلموا قلوبهم لله، وخضعوا بأبدانهم لله سبحانه وتعالى فنفذوا ما أراد الله، إذاً: الإسلام بمعنى: الإذعان، والخضوع، والاستسلام لله سبحانه وتعالى، فأنت تسلم نفسك له كما يسلم الأسير نفسه لمن أسره، تسلم نفسك لخالقك، لمالكك، للذي يدبر أمرك، تسلم أمرك إليه سبحانه وتعالى حتى يدلك على طريق الجنة فتكون من أهلها.

وقوله تعالى: (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فهو رب العالم كله، العالم العلوي والعالم السفلي، والرب: هو الخالق المدبر سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>