للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)]

قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:٣٧] كان أهل الجاهلية يطلون الكعبة بدماء البدن، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، والدم نجس، ولا يجوز للإنسان أن يلطخ الكعبة بمثل هذه النجاسات، فقال سبحانه تبارك وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:٣٧]، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يطلون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمين أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية.

وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} أي: لن يصل إلى الله سبحانه، ولن يستفيد الله سبحانه تبارك وتعالى من ذلك شيئاً، والله الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وهو مستغن عن العباد وعبادتهم، قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨].

قال الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:٣٧]، قال ابن عباس: أي: لن يصعد إليه، فلا اللحوم ستصعد إلى السماء، ولا الدماء ستصعد إليه، والذي يصل ويصعد إليه التقوى والعمل الصالح، فالله يتقبل عملك الصالح، ويكتب الله عز وجل في كتاب ما عملت من ثواب، أما اللحم أو الدم فلا يرتفع إلى الله، وإنما يرفع ثوابك إلى الله، ويثيبك عليه الله عز وجل بجنته وفضله.

والذي يصل ويرتفع إلى الله عز وجل التقوى من العباد أي: ما أريد به وجه الله سبحانه تبارك وتعالى، فذلك الذي يقبله، وذلك الذي يثيب عليه سبحانه تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يعني: إذا عملت العمل بغير نية فلن يقبله الله سبحانه، وإذا عملت العمل بنية صالحة خالصاً لرب العالمين قبله ورفعه إليه سبحانه، ونماه وزاده لك.

قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:٣٧] هذه قراءة الجمهور: ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ)) [الحج:٣٧]، وقراءة يعقوب: (لن تنال الله لحومها ولا دماؤها ولكن تناله التقوى منكم) فأنث الفعل باعتبار اللحوم.

وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:٣٧] أي: من الله عز وجل عليكم بأن سخر لكم بهيمة الأنعام، والله عظيم سبحانه تبارك وتعالى، والإنسان أضعف بكثير من البقرة التي يذبحها، ومن الجمل الذي ينحره، ومع ذلك سخر الله عز وجل هذا الجمل ينقاد لناحره، يأخذ بلجامه، ويسوقه ثم يطعنه، فالله الذي سخر ذلك، ولو شاء ما استطعت أن تغلبه، وقد يهجم الذئب على الإنسان وهو أضعف من الجمل ولا يقدر عليه الإنسان، ويخاف منه، ويفر منه، وكذلك يخاف من النمر والفهد والأسد، ولا يقدر على مواجهتها، فلو شاء الله لسلط الجمل عليه كما سلط عليه هؤلاء، ولكن الله سخر وذلل الجمل، فاعلم أن الله من فضله ومن رحمته سخر لك بهيمة الأنعام، ولو شاء لصعبها عليك ولما جعلها منقادة ميسرة مذللة لك.

قال الله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:٣٧] أي: هذا التسخير العظيم لتتأملوا في تدبير الله عز وجل للكون، وأن التدبير إلى الله وليس إليكم، وتدبيره بحسب ما يريده الله العزيز القدير سبحانه.

وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:٣٧]، فمن السنة عند أن تذبح أو تنحر أن تكبر الله سبحانه تبارك وتعالى، فسخر لكم هذه الأنعام لتذبحوها وتنحروها مكبرين الله، مسمين اسم الله عز وجل عليها، قال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:٣٦] يعني التسمية، وقال هنا: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:٣٧]، فتجمع بين التسمية والتكبير، تقول: باسم الله، والله أكبر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>