للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)]

الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: فقد قال الله عز وجل في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٣٩ - ٤١].

لما أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن المؤمنين أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله سبحانه بعدما أوذوا وفتنوا وظلموا، فأذن لهم الله سبحانه وتعالى بأنهم مظلومون، وأن الله عز وجل ناصرهم.

فقال تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) أي: هؤلاء المؤمنون المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، ولكنهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: ربنا الله.

ثم قال سبحانه: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ)) وكأن هذا كالإعلام بفرض الجهاد على المؤمنين، ولأمرهم بدفع الكفار، فإنهم لو تركوا هؤلاء الكفار وما يصنعون بالمؤمنين من أذى ولا يردعهم شيء لزاد طغيانهم في الأرض، فلا يقدر عليهم أحد، ولكن الله سبحانه يدفع أمثال هؤلاء الكفار بالمؤمنين المجاهدين في سبيله، فالجهاد والدفع شريعة ربنا سبحانه وتعالى في الأديان السابقة، وفي دين الإسلام.

فالأنبياء يدعون أقوامهم إلى طاعة الله رب العالمين، فيكذب الأقوام، فيشرع الله عز وجل للمؤمنين على ألسنة أنبيائه أن جاهدوا في سبيل الله، فيجاهدون، فينصرهم الله سبحانه وتعالى، فلولا ذلك الجهاد لتمكن الكفار من المؤمنين، ولكان الكفار هم الذين يسودون الأرض، ويفعلون ما يحلو لهم، ولكن الله عز وجل فرض الجهاد؛ تأديباً لهؤلاء الكفار، وإعزازاً لدينه، وإظهاراً للمؤمنين ولشعائر دينه سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، فكأن الله عز وجل شرع الجهاد في الأديان السابقة، فجاهد المؤمنون مع أنبيائهم الكفارَ، فجاهدوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومع غيره من الأنبياء.

يدفع الله بالجهاد الناس بعضهم ببعض، فيكف به شر الأشرار وكيد الكائدين لدين رب العالمين، وينصر الله عز وجل دينه، فيتمكن العباد المؤمنون مع أنبيائهم من عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.

قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:٤٠]، الصوامع: أماكن العبادة التي كان يتعبد فيها الرهبان، وهي جمع صومعة، وكانت مختصة برهبان النصارى.

والمعنى: أنه لولا جهاد الكفار لما تمكن المؤمنون من النصارى في عهد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أن يعبدوا ربهم سبحانه وتعالى، ولما تمكن المؤمنون الذي كانوا مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من عبادة ربهم سبحانه وتعالى وهكذا.

فلولا فرض الجهاد ودفع الله عز وجل الكفار بالمؤمنين {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:٤٠].

ثم يأتي وعد الله سبحانه بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:٤٠]، وهذا النصر مقيد بأسبابه التي منها: قوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧]، وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠]، وغير ذلك من أسباب كالتوكل على الله سبحانه.

{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٤٠] أي: أن الله قوي لا يغلبه شيء، وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر، فلا يقدر أحد على أن يعترض على أمره؛ لأنه مهما اعترض الإنسان ومهما جحد فإنه يأتي عليه قضاء الله وقدره، فيذله الله سبحانه تبارك وتعالى ويؤدبه، ويرجعه إلى التراب حقيراً ويعذبه ربه سبحانه، وهو لا يملك أن يدفع عن نفسه شيئاً؛ لأن الله قادر على كل شيء، فهو القوي العزيز سبحانه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>