للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:٨ - ١٢].

يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات العظيمة عن فضله على المؤمنين بعدما أخبرنا عما أعده للمشركين من عذاب أليم حيث قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:٦ - ٧] ثم ذكر المؤمنين وما أعد لهم سبحانه تبارك وتعالى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:٨]، وقد ذكرنا ذلك في الحديث السابق، وأن الله سبحانه تبارك وتعالى أمر الخلق بالإيمان بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، أمرهم بالإيمان، وهو التصديق واليقين والإقرار بالقلب وباللسان، فالتصديق في القلب ويتبعه القول باللسان، ويتبع ذلك العمل بالجوارح والأركان.

قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت:٨] لا بد من العمل الصالح؛ حتى يستحق الإنسان أن يدخل الجنة وينجيه الله عز وجل من النار، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يتفضل الله عز وجل عليهم بكرمه الواسع وبرحمته التي وسعت كل شيء فيدخلهم جنته ويعطيهم الأجر العظيم الذي لا نهاية له.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:٨] أي: غير مقطوع، فلا يقطع عنهم ولا نهاية له، فيعطيهم أجرهم بغير حساب، ليس محسوباً عليهم أنه من يوم كذا إلى يوم كذا فقط وينتهي هذا الشيء، فإذا كان كذلك فهو المقطوع وهو المحسوب، فالأجر لا ينقص منه شيء، ولا يقطع عنهم، بل هو أجر عظيم عند الله سبحانه، أجر بغير حساب.

معنى آخر لقوله: (غير ممنون): أي: لا يمن عليهم به، فالإنسان في الدنيا قد يعطي لغيره المال ثم يمن عليه، فالإنسان إذا من عليه آخر يستشعر بهذا الشيء الذي يقوله له ويتحسر في نفسه، أما في الجنة فلا حسرة فيها، ولكن الله يمن على عباده سبحانه ولا يوبخهم ولا يبكتهم إذا دخلوا الجنة، بل لهم النعيم العظيم الذي لا يقطع عنهم، ولا يمن عليهم بشيء من ذلك، وهذا من فضل الله الواسع.

وقد علمنا الله عز وجل في القرآن أننا نعطي ولا نمن في العطاء، فقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:٦] أي: لا تعطي العطاء مستكثراً لهذا الذي أعطيت، ولكن مهما أعطيت فانظر إليه على أنه قليل، فلا تمنن تستكثر: لا تعطي وتطلب من الناس أن يردوا إليك ذلك، فعلمه سبحانه الكرم العظيم الذي يليق به صلوات الله وسلامه عليه، الكرم العظيم الذي يليق بتأديب الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أعطيت للخلق فلا تنتظر المقابل، ولا تنتظر الأكثر مما أعطيت، وإذا أعطيت للخلق فلا تمن عليهم بما أعطيت، ولذلك لما جاء رجل من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عليه الصلاة والسلام شيئاً وأسلم الرجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع الرجل في غاية الفرح والسرور إلى قومه يقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر! يعني: الظاهر أن هذا عنده غنى كثير جداً لا يخاف من الفقر، أعطاني غنماً بين جبلين، فاذهبوا فسيعطيكم هذا.

النبي صلى الله عليه وسلم علمه ربه فقال: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:٦] لا تعط عطاءً مستكثراً على من أعطيت هذا العطاء، ولا تعط وتطلب المقابل على ذلك، إلا أن تطلب منهم الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:٢٣]، أي: ولكن راعوا المودة التي بيني وبينكم، وراعوا القرابة التي بيني وبينكم، ولا أسأل أحداً من الخلق شيئاً، إنما أسأل ربي سبحانه تبارك وتعالى بهذا العطاء الغير ممنون.

وقد وصف الله عز وجل عطاءه سبحانه بأنه غير ممنون، ووصفه بأنه غير مجذوذ فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٨] غير مجذوذ من الجذاذ، والجذ: القطع، فعطاء الله سبحانه لا ينقطع عن عباده إذا أدخلهم جنته، فإنه يعطيهم من فضله ومن رحمته سبحانه، ولا يقطع عنهم هذا الفضل العظيم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>