للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم)]

قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:٢٥]، (قيضنا لهم) أي: هيأنا، وسببنا لهم قرناء، والقرناء جمع قرين، وقرين الإنسان هو الذي يقترن به، ويكون معه، والقرناء من الإنس ومن الجن، وقرين الإنسان صاحبه الذي يكون معه، والشيطان الذي يغويه، وشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأمر الإنسان أن يتعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.

فالشيطان يغوي صاحبه فهو قرينه لأنه معه لا يتركه، وإذا أردت أن يتركك الشيطان فالجأ إلى الله قال الله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:٩٨]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:٩٧ - ٩٨]، فأمرك الله عز وجل أن تلجأ إليه وحده سبحانه، ولا تلجأ إلى غيره، فهو الذي يجيرك، وهو الذي يعينك، وهو الذي يعيذك من الشيطان الرجيم، وقيضنا من المقايضة والمبادلة، وقايضته في البيع أي: أخذت منه وأعطيته، (فقيضنا لهم) أي: أبدلناهم بالناس الخيرين أناساً أشراراً وجناً أشراراً لا ينفعونهم بل يغوونهم ويضلونهم بما كسبت أيديهم.

قال الله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:٢٥] أي: زين شياطين الإنس والجن لهؤلاء الغاوين الذين أغواهم الشيطان وأضلهم الله عز وجل ما بين أيديهم، وما بين يديك هو ما أمامك أي: في الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:٢٥]، أي: ما لا يرونه من الدار الآخرة، فيقولون لهم: أنتم ستعيشون في هذه الدنيا، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، اعملوا الذي تريدون، وخذوا الذي تريدونه في الدنيا، واظلموا من شئتم، واستمتعوا بالدنيا فليس غير الدنيا شيء، فزينوا لهم الظلم والإعراض عن الله سبحانه، والتكذيب لرسل الله، وزين شيطان الإنس وشيطان الجن لصاحبه أن يبتعد عن دين الله سبحانه في الدنيا.

{وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:٢٥]، بأن قالوا لهم: لن ترجعوا إلى الله ولن يحاسبكم فإذا بهم ينسون الدار الآخرة: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩]، وإذا بهم يعرضون عن الله سبحانه وتعالى، ويوم القيامة يقول لهم الله: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:٣٤] ويقولون لهم: ولو فرض أن هناك آخرة فإن الله سيعطيكم في الآخرة كما أعطاكم في الدنيا، فاستدلوا بأن الله قواهم، وأغناهم، وأعطاهم في الدنيا على أن لهم الفضل، فقالوا: إذا رجعنا إلى الدار الآخرة فإن الله سيعطينا مثلما أعطانا في الدنيا، فقد أعطانا لفضلنا في الدنيا فسيعطينا لفضلنا في الآخرة، فكان تفكيرهم في الدار الآخرة إما استهانة واستهزاء بعذاب الله سبحانه، وإما استكباراً ونظراً للنفس بنظرة افتخار، يقولون: مثلما أعطانا في الدنيا سيعطينا في الآخرة، وإما أنه لا توجد آخرة أصلاً، فزين لهم الشيطان السيئ من القول، والسيئ من الظن.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [فصلت:٢٥] وحق على هؤلاء أي: وجب عليهم ما قاله الله سبحانه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:١١٩]، فحق عليهم قول الله سبحانه وتعالى، ووجب عليهم أن ينفذ فيهم ذلك، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فصلت:٢٥] أي: ليسوا لوحدهم، بل هم والذين من قبلهم من الجن والإنس استحقوا عذاب الله سبحانه لتكذيبهم وإعراضهم.

وقوله: ((وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)) فيها ثلاث قراءات: {وَحَقَّ عَلَيْهِم الْقَوْلُ} [فصلت:٢٥]، هذه قراءة أبي عمر: (وَحَقَّ عَلَيْهُمُ الْقَوْلُ)، هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف ويعقوب: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت:٢٥]، هذه قراءة باقي القراء.

{إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:٢٥]، هذه وأمثالها من جمع المذكر السالم إذا وقف عليها يعقوب بخلفه فإنه يقف عليها بهاء السكت، كما ذكرنا قبل ذلك في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] وقلنا: فإنه يقف عليها يعقوب بخلف عنه بهاء السكت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>