للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)]

قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] أعظم الحسنات التوحيد، وأقبح السيئات الشرك، ولا يستوي التوحيد مع الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولا تستوي الطاعة مع المعصية، ولا يستوي الإيمان مع الكفر، ولا يستوي العمل السيئ مع العمل الصالح، ولا يستوي المؤمنون مع الكافرين.

قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:٣٤] يأمرك الله سبحانه أن تدفع خصمك ومن يعاديك بالحسنى، فأحسن إلى الخلق كي تستجلب مودتهم، فالإنسان يستعبده الإحسان إليه، قد يسيء إليك فتحسن إليه فتقل إساءته، ثم تحسن إليه فيستحي منك، فالإحسان إلى الخلق يستعبد الخلق، وهذا الذي يأمرنا الله سبحانه وتعالى.

فالله خالق كل شيء، خلق الشياطين وخلق الإنس وخلق الجان وخلق غيرهم، لك أعداء من الإنس، ولك أعداء من الجن، وعدوك من الإنس أنت تراه، وعدوك من الجن أنت لا تراه، فالله عز وجل يعلمك: كيف تتعامل مع أعدائك، وكيف تدفع هؤلاء الأعداء من الإنس، يقول: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وليس المعنى: أنك تترك الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكن ابدأ بذلك فأَحسِن وتَأَّلف الخلق لعلهم يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فتألف عدوك لعله يستجيب يوماً من الأيام، فتكسب بذلك إنساناً دخل في طاعة الله سبحانه وتعالى، والإنسان بالرفق في دعوة الخلق يجذب إلى دين الله أكثر بكثير ممن يدعو بالقوة وبالبطش وبالعنف؛ ولذلك ما كان الإحسان في شيء إلا زانه، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] إن صفة الدفع بالتي هي أحسن أن تتعامل مع خصمك الذي يسيء إليك بالإحسان لا المكافأة، وإلا فمن أين يكون الفضل لما يكون الأمر على ذلك؟! ولكن عامل الناس بخلق حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا من أجمل ومن أعظم الأخلاق أنك تكون كريماً حليماً في أخلاقك، إذا أساء إليك إنسان لا تدفع السيئة بالسيئة ولكن ادفع السيئة بالحسنة، وعود نفسك العفو والصبر على الإساءة إليك.

فقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] هذه النتيجة، والذي يخبر عن السبب وعن النتيجة هو الله سبحانه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤] فالله أعلم بقلوب الخلق، وما الذي يجذبها وما الذي ينفرها، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] والأصل: فبرحمة من الله، ولكن لتعظيم هذه الرحمة قال: (فبما) أي: بأي شيء؟! برحمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى أعطاكها فصرت طيباً مع الخلق ليناً هيناً صلوات الله وسلامه عليه.

قال: ((وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) هذا يقال للنبي صلى الله عليه وسلم، لو كان فضاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، فكيف بغيره عليه الصلاة والسلام؟! فيتعلم العبد المؤمن اللطف واللين ولو مع من أساء إليه، حتى لو قال الناس: إنك ضعيف، فلابد أن تعود نفسك الصبر والحلم إلا إذا كان في حد من حدود الله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلم ويصبر إلا في حد من حدود الله، فكان يقيم حدود الله صلوات الله وسلامه عليه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عليه الصلاة والسلام.

فقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] أي: ما كان بينك وبين مسلم، وبينك وبين فاجر، وبينك وبين إنسان عداوة إذا أحسنت إليه يصير في النهاية كالولي الحميم، والولي: من الولاية والقرابة، أي: القريب، يعني: كأنه قريبك بعد ما كان بعيداً عدواً صار قريباً منك وقريباً لك وحميماً محباً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>