للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:١٣].

ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه الرب سبحانه وتعالى، الذي {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:١٢ - ١٣] إلى آخر ما ذكره سبحانه.

و (الله): هو الإله المعبود سبحانه وتعالى، وهو الرب الخالق الموجود المعطي سبحانه وتعالى، وقد اجتمع له الأمران: الربوبية والألوهية، ولا يوجد معبود من دون الله سبحانه وتعالى يجتمع له ذلك، فقد يتخذ الناس إلهاً من دون الله فيتوجهون إليه بالعبادة، ولكن هذا الذي يعبدونه لا يملك أن يخلق، ولا يملك أن يرزق وأن يعطي، ولا يملك أن يحيي وأن يميت، ولا يملك السموات والأرض، والله سبحانه وتعالى هو الذي له ملك السماوات والأرض، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:١]، وقال هنا: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:١٢]، أي: يملك مفاتيح خزائن السماوات ومفاتيح خزائن الأرض، فمفاتيح الخزائن بيده، فهو الذي خلقها، وخزائنه لا تغيض بل تفيض، فإن خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، ولا ينقصها عطاء، والله عز وجل هو الذي يعطي ويرزق من فضله ومن كرمه سبحانه، فإنه يقول للشيء: كن فيكون.

هذا الإله العظيم الرب الخالق يقول: ((شرع لكم) أي: جعل لكم شريعة.

و ((شرع)): سلك بكم طريقاً، ونهج لكم منهاجاً، وسنّ لكم سنناً، فجعل لكم هذا الطريق، وشرع لكم شريعة.

و (شرع) مأخوذ من الشارع، والشارع يطلق على الطريق الأعظم، والطريق الأعظم هو الطريق الواسع الذي يمر فيه الجميع، فالله عز وجل شرع لكم، أي: جعل لكم طريقاً موصلة إليه، ومنهجاً تسلكونه؛ حتى تسيروا على طريق الله سبحانه وتعالى بعبادته، فتصلون إلى جنته سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي: شرع لكم ديناً، وجعل لكم شريعة ومنهاجاً تعملون بها فتسلكون بها إلى الجنة، والذي شرع لكم هو الله سبحانه وتعالى، الذي قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٤٠]، فالله عز وجل كما أنه يخلق -وهذه من صفات ربوبيته- كذلك يحكم ويشرع، وهذه من صفات ألوهيته سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦٢]، فالحكم لله، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٤٠].

فدين الله واحد، وهو دين عقيدة وتوحيد، ودين لا يتوجه فيه الإنسان بقلبه إلا إلى إله واحد سبحانه وتعالى، وهو الإله الحق وحده لا شريك له.

<<  <  ج:
ص:  >  >>