للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)]

قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:٢٥]، فانظروا إلى كرم الله سبحانه وتعالى، هم يقولون: افتراه، والله عز وجل يخبر عن هذه الجريمة التي قالوها وعن العقوبة، ثم يقول: إنه يبسط لهم يد التوبة إن تابوا إلى الله، فيتوب الله عز وجل على هؤلاء إن تابوا إليه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، أي: يقبل توبة عباده، فعل وفاعل ومفعول، قوله تعالى: {عَنْ عِبَادِهِ}، يعتبر المفعول الثاني، فكلمة (يقبل) تتعدى لمفعول واحد فقط، ولا تتعدى للمفعول الثاني إلا بمن أو بعن، فهنا تعدَّت للمفعول الثاني بقوله: {عَنْ عِبَادِهِ}.

ومن العباد من يتوبون إلى الله فيقدمون هذه التوبة فيتجاوز الله عن عباده سبحانه وتعالى، فكأن معنى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، أي: يعفو ويتجاوز عن عباده، فالقرآن كتاب فصيح وبليغ، يعبر بالكلمة عن الجملة، وبالحرف عن الجملة، فقوله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، أي: أخذها، ولكن لا نعرف ماذا فعل بهم، لكن لما قال: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:٢٥]، قد قبل ما قالوا، قالوا: تبنا، فقال: تبت عليكم ولن أعاقبكم، ومحونا هذا الذنب وتجاوزنا عنه وعفونا عنه، فقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، اي: يعفو عن هؤلاء العباد فيما أسرفوا وفيما وقعوا فيه، يقبل التوبة عمن تابوا إلى الله وأخلصوا لله، ودخلوا في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن العاص: (مد يدك، فمد يده ثم سحبها، قال: لم يا عمرو؟! فقال: أريد أن أشترط، قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر الله لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تهدم ما قبلها).

فإذا كان إنساناً كافراً دخل في دين الله عز وجل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصلح، فهذه تجب ما قبلها، ويغفر الله له كل ما وقع فيه قبل ذلك، ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فالله يتوب عليه.

قال الله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ}، أي: يتجاوز سبحانه وتعالى عن سيئات وقع فيها صاحبها، وقوله: {السَّيِّئَاتِ} [الشورى:٢٥]، أي: جنس السيئات وكل السيئات يعفو عنها، ولا يوجد ذنب يتعاظم على الله سبحانه وتعالى، فإن {اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، وإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، فيغفر الله الشرك فما دونه، فكل الذنوب يغفرها الله سبحانه بالتوبة.

وإذا مات العبد على الشرك فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨]، لأن الشرك يحبط كل الحسنات، فهو أقبح السيئات التي يقع فيها العبد، فإذا مات العبد على الشرك فإنه لا يرجو مغفرة من الله عز وجل، ولو أن العبد لم يقع في الشرك بالله سبحانه، ووقع في معاصٍ، فإنه يكون في خطر المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أوبقه وعذبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨]، وإذا لم يمت العبد وتاب فإن الله يغفر الذنوب جميعاً الشرك وما دونه، طالما أن العبد يتوب إلى الله فالله يتوب عليه، ولكن التوبة بشروطها.

فمن تاب إلى الله عز وجل إذا كانت المعصية بينه وبين الله يتوب إلى الله ويستر نفسه ولا يفضحها، وإذا كان بينه وبين الخلق مظالم فلابد من إرجاع المظالم لأصحابها أو التحلل منهم، فالله يعفو عن السيئات بالتجاوز عمن تاب إليه سبحانه.

وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:٢٥]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب، وباقي القراء وهم الجمهور يقرءونها: (ويعلم ما يفعلون) سبحانه علام الغيوب، فهو يعلم ما يفعل هؤلاء الكفار، وما يفعلونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن تاب منهم تاب الله عز وجل عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>