للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ضابط الكبيرة]

وهنا يتكلم العلماء في أمر الكبائر، وليست الكبائر هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم أو هي التي ذكرها الله عز وجل في كتابه فقط، بل قد وضع العلماء لها ضابطاً، فقالوا: كل ذنب من الذنوب توعد الله عز وجل عليه بالعذاب، أو جعل فيه حداً، أو لعن الله عز وجل فاعله أو غضب عليه فهو كبيرة من الكبائر التي تفحش في نظر المؤمن حين يسمعها، ولو لم ينص على أن هذا من كبائر الذنوب.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المذكورة في القرآن كالسرقة، والزنا، وقتل النفس، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول مثلاً: فمن شتم الرب سبحانه وتعالى، فانظر إلى المشرك وانظر إلى الذي يشتم، فالمشرك بالله معظم لله تبارك وتعالى، ويقول: أن لا أقدر أنا أعبد ربي مباشرة، إنما أجعل الصنم يوصل هذه العبادة؛ لأنني أحقر من أن أصل إلى الرب فأعبده مباشرة، فهذا عنده شيء من التعظيم، لكنه أشرك في تعظيمه، فوقع في كبيرة من الكبائر.

والذي يشتم الرب سبحانه وتعالى تجده أفحش بكثير من الذي أشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا استهان بربه.

فالأول: جعل معه في ملكه غيره.

والثاني: كأنه ألغى ربه، فلاشك أن الشتم أفحش.

وكذلك الذي يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهين برسل الله عليهم الصلاة والسلام، أو يكذب أحداً من رسل الله.

وقد جعل الله تعالى الحرم آمناً كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:٦٧].

فالحرم آمن شرعاً وقدراً، ففي الجاهلية كانوا يعرفون حرمة هذا الحرم، فما كان أحد يجرؤ أن يلحد داخل الحرم، كأن يقتل إنساناً، أو يأخذ مال إنسان، بل كان الرجل يجد قاتل أبيه وقاتل أخيه داخل الحرم فلا يمسه بسوء، وينتظره خارج الحرم إن أراده بسوء، أما داخل الحرم فكانوا يخافون من ذلك، فهذا التحريم القدري.

أما التحريم الشرعي فبما أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن ومن سنة.

فلو أن إنساناً ظلم إنساناً داخل الحرم وقد جعله الله حرماً آمناً، فهذا ألحد في الحرم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥]، ففي الآية وعيد للذي تحدثه نفسه أن يلحد في الحرم أن يذاق من عذاب أليم، فكيف بمن يفعل ذلك؟ ولو كان يؤذي الحرم نفسه، كأن يفكر بهد الحرم، أو يسرق شيئاً من الحرم، أو لطخ الحرم بعذرة، أو تغوط أو بال داخل الحرم الذي قدسه الله عز وجل وجعله طاهراً آمناً، فإذا سقنا كل ذلك على الإلحاد في الحرم نجد أنها من كبائر الذنوب، مع أن هذا مما لم يذكر في القرآن ولا في السنة، ولكن دخل بقياس الأولى، فهذا أولى بأن يكون إلحاداً في الحرم من غيره.

كذلك جعل الله عز وجل المصحف له حرمة عظيمة، قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٩]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فلو أن إنساناً رمى المصحف أو مزقه، فقد يكون ذنب هذا الإنسان أفحش من مسه على غير طهارة، بل يكفر الذي يفعل ذلك.

كذلك الزنا كبيرة من الكبائر، فإذا زنى الإنسان بحليلة جاره كان هذا أفحش، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بعشرة أبيات أيسر من أن يزني بحليلة جاره)، وهذا الذي يزني بعشرة أبيات واقع في كبيرة من الكبائر، ولكن أفحش من ذلك أن يقع في حليلة جاره، وأفحش من ذلك أن يمسك امرأة محصنة لغيره ليزني بها، فيقول العلماء: هذا من فواحش الذنوب ومن كبائر الذنوب التي يقع فيها الإنسان.

كذلك القتل من كبائر الذنوب، والذي يمسك بمؤمن لغيره ليقتله هذا مشارك له ومماثل له في هذا الذي فعله.

كذلك من الكبائر: أكل مال اليتيم، فلو أنه أخذ مال اليتيم، واشترى به طعاماً وأكله فهذا من كبائر الذنوب، ولو أنه أخذ مال اليتيم ورماه في البحر، فيكون هذا أفحش بكثير من الأول، فالأول قد يكون جائعاً، ولكنه واقع في كبيرة وأكل ناراً والعياذ بالله.

أما الثاني: فإنه استهان بالشريعة، واستهان بحق اليتيم، وكسر قلبه بأن أحرق ماله، أو أتلفه عليه، فهذا أعظم بكثير.

فهذه الأشياء إن لم تنص عليها الشريعة فقد نصت على ما هو أقل منها، فهذا أفضع وأشنع من الأول الذي نص عليه قوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:١٥٢]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، كذلك لو أن إنساناً هرب في القتال فقد وقع في كبيرة من الكبائر، وقد توعده الله عز وجل بغضبه، قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:١٦]، فلو أن إنساناً دل الكفار على عورات المسلمين بأن قال لهم: في المكان الفلاني مجموعة من المسلمين؛ فتجسس للكفار، فأنزلوا عليهم القنابل فأحرقوا المسلمين، كيف يكون فحش ذنب هذا الإنسان؟ لا ننظر إلى أنه قال كلمة، إنما ننظر للنتيجة لذلك، فهذا أشار بيده على المكان فدمروه.

وهذا مثلما كان يفعل اليهود بالفلسطينيين، يجندون بعضاً منهم يقف لهم في مكان فيشير على السيارة، فتأتي الطائرة وتضرب الصاروخ على قادة حماس وقادة القسام فتحرقهم.

فهذا الذي دلهم ذنبه أعظم من أن يقتل مؤمناً، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلون بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، ويزنون بنسائهم، وانظر إلى الكفار لما دخلوا العراق، واقرأ عن المذابح التي حصلت هناك، واقرأ عن الفواحش التي ارتكبوها في نساء المسلمين، يدخلون لتفتيش البيوت ثم يزنون بنساء المسلمين، والعالم كله ساكت على ذلك، ولا أحد يعترض على هذه الجرائم التي فعلوها في سجن أبو غريب وغيره من السجون هناك.

فهذا الذي دلهم على عورات المسلمين، والذي عرض بلاد المسلمين لذلك، والذي أعان على مثل ذلك، كيف يكون ذنبه عند الله سبحانه وتعالى؟! وأي كبيرة وقع فيها؟ وأي فحش وقع فيه أعظم من هذا الذي يقع في ذلك؟ وقس على ذلك غيره.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: وهذا نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولية يوم الزحف.

عندما تقول: فلان هرب من الحرب، أيهما أعظم جرماً عند الله سبحانه وتعالى وأيهما أعظم جرماً في عقل الإنسان: هذا الذي دل على العورات، فحصلت كل المفاسد والمصائب، أم الآخر الذي هرب من القتال وحده؟ فإن وقع هذا في كبيرة، فهذا وقع في أعظم وأشنع من أن يوصف بكبيرة فقط.

ولو أن إنساناً كذب ليأكل ويستحل مال مسلم، أو كذب ليأخذ شيئاً من مال مسلم ثم أنكر أنه أخذه، وحلف يميناً غموساً، فهذا وقع في كبيرة من الكبائر استحق بها النار.

ولو أن هذا الإنسان كذب وقال: إن فلاناً هذا رأيته يقتل فلاناً، فأخذوه وقتلوه.

أي الاثنين أعظم جرماً: هذا الذي أخذ شيئاً من المال، أم الذي شهد على الإنسان وكذب عليه فقتل بسبب كذبه؟ لا شك أن هذا أعظم بكثير من الأول، فإذا كان فعل الأول كبيرة؛ فالثاني من فواحش الكبائر.

يقول العلماء: ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص، فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله، وكلهم عالمون بأنهم ظالمون، فذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عمداً وعدواناً.

ولو أن مجموعة تواطئوا مع الحاكم على الشهادة على شخص أنه قتل شخصاً آخر، فأمر الحاكم الجلاد بأن يقتل هذا الرجل فهؤلاء ذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عامداً مع أنهم لم يباشروا القتل.

هذا مختصر لكلام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتاب قواعد الأحكام.

فالخلاصة: إذا أردت أن تعرف أن هذا الذنب كبيرة من الكبائر فانظر لما يترتب عليه من مفسدة، وقسها على الكبائر التي جاءت في القرآن الكريم أو جاءت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتعرف قبح هذا الذنب هل يوصله إلى أن يعد من الكبائر أم لا؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>